محمد عبدالعزيز
30 يوم في الصين
4-مصنع المصانع بقلم /
يبقى الحاجز اللغوي هو أبرز ما ينغص على زائر الصين متعة الرحلة و جمالها ، فقلة قليلة جدا من الصينيين هم من يتحدثون اللغة الإنجليزية . و نحن بالمقابل لا نعرف عن اللغة الصينية شيئا أكثر من " ني هاو " و التي تعتبر التحية المعتادة بمعنى كيف حالك ؟ علاوة على قليل من الكلمات الأخرى المستخدمة على مدار اليوم . و لكن صعوبة اللغة الصينية بالنسبة لنا و صعوبة اللغة العربية بالنسبة للصينيين يمثل الحاجز الحقيقي بين الثقافتين العربية و الصينية ، و ذلك على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الصين لنشر لغتها بين دول العالم و المتمثلة في منح دراسية لخريجي قسم اللغة الصينية في كليات الآداب . و لكن الصينيون شعب لا يقر بالمستحيل و لهذا فإن السفارة الصينية بمصرعقدت قبل أشهر مسابقة بعنوان " الجسر" للتنافس حول فن الإلقاء باللغة الصينية واختبارات لقياس المعرفة بالحضارة الصينية ، و جعلت الجائزة رحلة للصين للشباب لاثنين من الفائزين .
كان هذا الحاجز هو العائق بين تحقيق التفاهم التام بيننا و بين مشرفي رحلة الثلاثين يوما من الجانب الصيني . لذا فإننا كنا نسلمم أنفسنا لهم في معظم تحركاتنا معهم ، و نادرا ما كنا نعرف وجهتنا و لا الهدف من التحرك ، إلا بالصدفة حين يرافقنا مسئول يجيد الإنجليزية فيستطيع التواصل معنا بها بطلاقة . توجهنا يوما في إحدى تلك الزيارات إلى مصنع أفهمنا المشرف الصيني أنه مصنع مهمته صناعة قطع انتاج و ماكينات و آلات للمصانع الثقيلة تحت الإنشاء أو أنها تضاف كخطوط إنتاج للمصانع القائمة بالفعل . و لأننا لم نستوعب الموضوع تماما ، أخذنا نتندر و نحن في الطريق بأننا سنزور مصنع المصانع . إلى أن وصلنا بالفعل إلى مصنع ضخم جدا العمالة به متوسطة العدد ، لكنها ذات كفاءة عالية تستطيع التعامل مع الآلات بمهارة شديدة . منتجات المصنع يتم تصديرها إلى إنجلترا و عدد آخر من الدول الصناعية الكبرى .
الشاهد هنا هو أن المنتجات الصناعية الصينية لديها سمعة سيئة في مصر و كذلك في الأسواق العربية ، بما يتنافى مع واقع هذه الصناعات التي استطاعت أن تنافس الماكينة الألمانية و الدقة اليابانية و الهيمنة الأمريكية ، و أن تنتج ما ينافس مثيلاتها في الأسواق الأوروبية ذاتها . مما جعل الصين تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث حجم الإنتاج الصناعي . و تتجلى المعجزة الصناعية الصينية حين نعلم أنه و حتى عام 1977 كانت أعلى المنتجات الصناعية الرئيسية في البلاد هي : الغزل والأقمشة والفحم الخام والحبوب والقطن . و ها هي اليوم تتمكن من اختراق مجال الصناعات العسكرية و الثقيلة و التكنولوجية و الصلب الخام و الفحم و المنتجات الرقمية أيضا . السيارات في الصين مثلا كلها سيارات حديثة و من كل الماركات المحلية ، بل و الماركات العالمية أيضا المنتجة في الصين و منها موديلات لماركات معروفة تماما في منطقتنا ، لم نرها بعد في أسواقنا العربية .
و يبقى تأثير ما قام به الزعيم الصيني الراحل دينج شياو بينج فيما آلت إليه الصناعة الصنيية،واضحا و مشكورا من الشعب الصيني . ففي نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أرسل بينج عدداً من البعثات إلى الدول الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة، وبفضل هذه السياسة تمكنّت الصين من الانتقال من المجتمع الزراعي إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم صناعي مذهل.
و قد بدأت تلك الحكاية عام 1978 حين طلبَ دينج من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم الموافقة على التعاقد مع خبير تنمية إدارية وإقتصادية عالمي للنهوض بالواقع الإقتصادي المتردي للصين الشعبية وبعد رفض طلبه سبع مرات وافقت اللجنة في المرة الثامنة .
وخاطب دينج جامعة أكسفورد البريطانية ،للعمل مع الحكومة الصينية بصفة مستشار أول ، و عرض المغريات المالية كأن يدفع له خمسة أضعاف راتبه الحالي مع إمتيازات إضافية آخرى كتذاكر السفر المجانية ثلاث مرات بالسنة وعطلة شهرين كاملين في السنة مدفوعة الأجر.
و رشحت كلية الإدارة والإقتصاد والسياسة في جامعة أكسفورد البروفيسور العراقي الأصل إلياس كوركيس ، وأمرَ دينج وزراء الحكومة الصينية بتنفيذ مايطلبهُ منهم الخبير الدولي الذي عين مستشارا تنمويا للصين و الذي أشار بما يلي :
التحول التدريجي إلى إقتصاد السوق، وفتح الباب أمام الإستثمارات الأجنبية وخاصة في مجال الصناعة . و لتحقيق هذين الهدفين سعى مع الحكومة الصينية إلى خلق حكومة نظيفة وأمينة ونزيهة، كما عمل على تضييق الفجوة الإقتصادية بين شرق وغرب الصين بتبادل الخبرات المتوفرة،علاوة على تقليل التضخم بالعملة. و الأهم أنه قام شخصياً بتدريب الوزراء على الإدارة والقيادة وتعلم الإنجليزية ، ونقل الوزراء هذه التجربة إلى موظفي وزاراتهم.كما عمل كوركيس على ربط الإقتصاد الصيني بالاقتصاد العالمي.الأمر الذي ساعد الصين بالإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
علينا إذن أن نعيد النظر في المنتج الصناعي الصيني ، و أن لا نحكم عليه من مجرد أجهزة و منتوجات صناعية تصلنا من هناك على يد تجار و مستوردين جشعين يختارون لنا الفئة المتدنية من البضائع ليحققوا أرباحا طائلة . فكما يؤكد تقرير صادر عن المكتب الوطني الصيني للإحصاءات أن الصين تحتل المركز الأول عالميا في إنتاج أكثر من مائة منتج صناعي خفيف .
لكن على الجهات المختصة في الصين أن تبذل جهدا أكبر في محاولة منع تصدير المنتجات ذات الكفاءة المتدنية التي تسئ لسمعة المنتج الصيني . فمثل هذه المنتجات التي تصدر إلى بلادنا العربية ، تكاد تصرف المستهلك العربي عن المنتجات الصناعية الصينية بالكلية بما في ذلك المتميز منها سعرا و جودة . و لن تقنعنا الحجة التي يرددها البعض من أن الصين بهذه الصادرات توفر فرص عمل لآلاف المواطنين لديها . فعلى المدى البعيد قد تفقد تلك الصناعات المتقدمة التي أشرنا إليها سوقا متميزا لها سواء في مصر أو في المنطقة العربية . و أظن أن هذا هو ما يحدث بالفعل إذ تتردد منذ فترة في وسائل الإعلام و بين خبراء الاقتصاد و رجال الصناعة الصينيين دعوة إلى تحويل الاهتمام من العناية بحجم المنتوجات و سرعة دوران عجلة الإنتاج ، إلى مزيد من العناية بالجودة و العائد . و من النمو بسرعة عالية إلى تنمية عالية الجودة . و يأتي هذا التوجه في إطار استراتيجية " صنع في الصين 2025 " القائمة على محاور : الابتكار و التناسق و الخضرة و الانفتاح و التمتع المشترك بثمار التنمية.
اللافت أيضا هو حرص رجال الأعمال الصينيين على السعي لفتح أسواق جديدة لمنتجاتهم ، فمع زيارة أكثر من مصنع ، كان المسئولون بهذه المصانع يسألون عن جنسيات الزائرين و يحرصون على طرح أسئلة أو تلقي أسئلة تمثل مسحا سريعا للسوق في هذه البلد أو تلك . كما أننا لاحظنا حرصهم على توزيع كروتهم الشخصية ، طبعا آملين أن يكون هذا الإعلامي الزائر جسرا بينهم و بين الدولة التي يمثلها ‘ إذ من المحتمل أن يكون الضيف على صلة بالنافذين في دولته سواء في الحكومة أو القطاع الخاص .
و تبقى التجربة الصينية في مجال النهضة الصناعية نموذجا ملهما للدول النامية و قابلا للتطبيق في بلادنا ، بشرط أن نتحمل كمواطنين تبعات الإصلاحات الاقتصادية ، و أن تلتزم دولنا بتحقيق الشفافية و النزاهة في الإدارة الحكومية ، و الأهم أن نجد الخبير الكفء الذي نضع فيه ثقتنا الكاملة و أن نستجيب لكل مطالبه من أجل تحقيق مشروعه التنموي سواء كان هذا الخبير وطنيا – و ما أكثرهم و أخلصهم في بلادي – أو حتى لو لجأنا لخبير دولي كما فعلت الصين باستقدام إلياس و دفعت له أموالا طائلة ، فهذه الأموال مهما كثرت فهي في النهاية أقل مما ندفعه لخبير كروي لا يجني فريقنا من وراء خططه سوى الهزائم و الخروج المبكر من المنافسات القارية و لا أقول الدولية .