رئيس التحرير
عصام كامل

الحرب في القصير: مكره أخاك، وبطل....


أكتب عن الحرب في القصير المدينة التي أعرفها منذ صغري، كونها جارة مدينتي الهرمل التي ينبع منها نهر العاصي ليروي القصير وريفها، قبل أن يمر عبر الجمهورية العربية السورية من الجنوب إلى الشمال ليصب في تركيا، وقد يأتي يوم أروي فيه الكثير من الأخبار التي لم تعلن، ولم تنشر عن سيطرة المد التكفيري بدايات العام 2012 على المدينة، في تزامن مع العمل الطائفي المنظم الذي بدأ في حمص، التي عايشت بداية العمل الطائفي فيها عبر التواصل مع بعض الذين تم اختطاف أبنائهم في المدينة.


والذين طلبوا مني إيصال أسماء أبنائهم المختطفين إلى بعض المراجع في المعارضة السورية التي أعرفها، وكان يومها اسم (محمد صقر خليف) يتردد في المسئولية عن عمليات الخطف الطائفي في حمص، ولكن خليف هذا بعد الاتصال به أخبر الوسطاء أن أولاد عائلة (دوم) الذين خطفهم تم تنفيذ حكم الشرع بهم وبكل من لا يغادر المدينة من الكفار والمرتدين، كان (محمد صقر خليف) أول زعيم مجموعة تكفيرية شكلت في حمص وضواحيها قبل الذبح الطائفي الكبير منتصف 2012 والتهجير الطائفي الكبير الذي شهدته المدينة نهاية 2012.. وأذكر يومها أني التقيت في مؤتمر صحافي في فرنسا (برهان غليون) الذي هو ابن محافظة حمص، وكان يومها رئيسا للمجلس الوطني السوري، وسألته عن أعمال التطهير الطائفي في حمص فرفض إدانتها.

في القصير كان الوضع أخطر وأدق، فالمدينة التي يوجد فيها خليط ديني ومذهبي، محاطة بقرى سورية موالية للنظام بتركيبتها، وقرى سكانها لبنانيون شيعة، ولكنها داخل الأراضي السورية بفعل التقسيم الذي فرضته فرنسا في أربعينيات القرن الماضي، ولا أخفي سرا إن قلت أن كاتب هذه السطور له في هذه القرى أقرباء وأملاك وبيوت تعود إلى مائتي عام خلت.

منذ بداية العام 2012 خرجت مدينة القصير عن سلطة الدولة السورية، وبدأت ملامح الإمارة التكفيرية تظهر عليها مع توافد المئات من التكفيريين الغرباء عن بلاد الشام إلى المدينة التي شهدت يومها أول عملية تهجير طائفي عبر حرق صيدلية لشخص سوري من آل (حمادي) بسبب رفضه إغلاق صيدليته والمشاركة في التظاهرات ضد النظام، وما لبثت هذه الحالة أن عممت على المؤيدين للنظام أو على الحياديين من المسيحيين والشيعة الذين هاجروا من المدينة بعد توسع عمليات القتل ضدهم.

بعد تنظيف المدينة طائفيا، اتجهت العناصر التكفيرية التي شكل الغرباء غالبيتها وهم (صوماليون، تونسيون، ليبيون، داغستانيون، شيشانيون) اتجهت هذه العناصر إلى السيطرة على ريف القصير خصوصا الريف الغربي لنهر العاصي الذي يتواجد فيه لبنانيون من أهالي الهرمل، وتم تهجير القرى التالية وإفراغها من أهلها وهي: ( أبو حوري، الحمام، الأظنية، الفاضلية، عين الدمامل، سقرجة، النهرية) وهذه القرى على تماس مباشر مع مدينة الهرمل، وقد أقام المسلحون التكفيريون منظومة عسكرية متكاملة في كل من (النهرية وسقرجة ) التي أصبحت خط اشتباك يومي مع أهالي منطقة الهرمل حتى شهر "نيسان" إبريل الماضي تاريخ طرد هذه الجماعات من هذه القرى.

في تلك الفترة بدأت عمليات خطف وقتل طائفي بحق أبناء من الهرمل من الذين يعملون في التجارة أو سائقي نقل عمومي على طرفي الحدود، وكان أول ضحاياه شاب من الهرمل اسمه (محمد سمير بليبل) من الذين ينطبق عليهم مقولة (على باب الله) خطف في ريف القصير، ولم يعرف مصيره إلا عند عملية تبادل بين آل جعفر والمسلحين، عندما اعترف مخطوفون من القصير أن من خطفه زعيم الجماعات المسلحة (مصطفى صالح عامر) المعروف بعمليات الذبح والقتل، يومها تدخل حزب الله في الهرمل بشكل حاسم، ومنع فتنة طائفية كبرى في البلد خصوصا أن في الهرمل نحو 600 عائلة سورية، ومن الإنصاف القول إن عشرة بالمائة فقط منها مسلمون شيعة فضلا عن علاقات (مصطفى العامر) في مدينة عرسال اللبنانية التي كان يتردد عليها دوريا.

ولم تتوقف هذه الأعمال حيث تم اختطاف جعفر مدلج وقتله، ومحمد عبد العباس الذي اختطف وتمت تصفيته، ومن ثم اختطف شخص من آل زعيتر، وهذا الرجل أرسل إلى أهله مقطعا في كيس من البلاستيك، وطوال هذه الفترة كان حزب الله عامل التهدئة الوحيد في المنطقة التي كانت ستشهد حملة ثأر طائفي غير مسبوقة لولا تدخل حزب الله الذي كان له أكثر من دور في لجم هذه الفتنة في عمليات التبادل التي تمت أكثر من مرة بين آل جعفر والمسلحين في سقرجة أو في عملية الاختطاف الأخيرة لشخص من آل جعفر في بلدة عرسال شمال البقاع التي تشكل قاعدة دعم وإمداد للمسلحين في القصير وحمص.

تزامنت كل هذه التعديات مع وصول عدد المسلحين التكفيريين على حدود مدينة الهرمل إلى ما يقارب 17 ألف مسلح غالبيتهم من القادمين من خارج منطقة الشرق الأوسط، وبدأت معالم جبهة تتشكل على حدود الهرمل، وكان الأهالي يسمعون عبر اللاسلكي المسلحين بلهجات تونسية وليبية وخليجية حوارات بين المسلحين الذين كانوا يتوعدون أهالي الهرمل باقتحام مدينتهم وقتل رجالهم وسبي نسائهم، ومن الاتصالات التي رصدت في شهر رمضان الماضي حديث عن نية المسلحين الإفطار في مدينة الهرمل.

وتحولت المنطقة خلال العام الماضي إلى جبهة حرب حقيقية بين أهالي الهرمل والمسلحين، فيما كان موقف حزب الله لأهل القرى المواجهة أن من يريد أن يترك هو حر ومن يريد البقاء له الحرية، في وقت كانت الاشتباكات بين أهالي المنطقة والمسلحين الغرباء تستمر يوما بعد يوم.

في شهر إبريل الماضي حصل التطور الكبير والمرعب في تلك المنطقة بتمكن المسلحين التكفيريين من السيطرة على تل النبي مندو الاستراتيجي الذي يشرف على كل منطقة حوض العاصي، وقد أعدمت الجماعات المسلحة حامية التل من جنود الجيش العربي السوري بدم بارد، وبدأت عملية تحصين في التل، وأتت بمئات المسلحين إليه في استمرار للهجوم نحو قرى شيعية أخرى ( حاويك، زيتا، الديابية) كانت مهددة بالتهجير، وبالتالي يصبح المسلحون يمسكون بجبهة تشكل طوقا من أربع جهات حول الهرمل من جهة سوريا في القصير ومن جهة الشمال اللبناني حيث كانت تدور من وقت لآخر معارك بين آل جعفر ومسلحين في أكوم السورية، وثالثة في منطقة عكار، ورابعة عبر الطريق المؤدية لبعلبك والتي انتشر فيها مسلحون من الجيش الحر في مزارع سيطر عليها ناشطون سلفيون من عرسال على امتداد سهل رأس بعلبك التي تعتبر طريق وصل الهرمل بمدينة بعلبك وبالبقاع.

بعملية تل مندو اكتملت عملية عزل مدينة الهرمل وأهلها، تزامنا مع عملية خطف حسين جعفر التي تطورت إلى عمليات خطف مضادة هددت بفتنة طائفية شاملة في لبنان، ومعها بدت سياسة الصبر والنأي بالنفس سياسة انتحارية بكل معنى الكلمة، في وقت انخرط فيه الكثيرون في لبنان من قوى 14 آذار والجماعات السلفية في المعركة التي تحولت إلى حرب تهجير وإبادة طائفية ليس لها علاقة بأية مطالب إصلاحية في سوريا.

مكره أخاك وبطل... هذا هو حال المقاومة وأهلها في حرب فرضت عليهم، لم يريدوها ولم يسعوا لها، لكنهم قرروا خوضها ببطولة وشجاعة حتى الحسم الكامل القريب ومهما كلف الثمن.
نقلا عن موقع النفيس
الجريدة الرسمية