تخاريف شاب في الستين!
في عام 1988 كنت مساعدا لرئيس تحرير جريدة الشعب، المسئول التنفيذى عن الجريدة، وهى من أصعب المهام في الجريدة، لأنها الخطوة الأخيرة لجهد كل الزملاء من اسرة التحرير، وجريدة الشعب مثل معظم الصحف الحزبية كان يتم طباعتها في مطابع جريدة الأهرام.. فكرت إدارة الجريدة في تجهيز الأعداد للنشر بعيدا عن الأهرام، ففى إحدى الزيارات لأستاذى المفكر الكبير "عادل حسين" رئيس التحرير إلى لندن أو باريس لا أستطيع الجزم، عرض عليه بعض المصريين الاستعانة بتكنولوجيا حديثة لإخراج جريدة الشعب، وخاصة أنها لا تحتاج عمالة كثيرة ولا أماكن كبيرة، وافق الأستاذ "عادل حسين" وطلب مشاهدة هذه الأجهزة، وكانت أجهزة "آبل ماكنتوش" التي لم تكن الصحافة المصرية قد عرفتها أو سمعت عنها.. وبالفعل في عام 89 قررت إدارة الجريدة أن تصدر الأعداد يوميا، خاصة أنها كانت تتفوق على كافة الصحف الحزبية (الوفد والأهالي والأحرار)، وبناء على هذا القرار تم شراء عدد من الأجهزة، وبإشراف الإعلامي الكبير "السيد الغضبان" والحزبى المهم "محفوظ عزام"، وتجهيز مكان بعيد عن الجريدة، وتم إبلاغى بالاستعداد للانتقال إلى الوحدة الخاصة بنا بدلا من جريدة الأهرام.وبدأنا في الاستعداد للإصدار اليومى، وكان هناك أمور أو مشكلات عديدة لا يعرفها إلا متخصص جدا في مطبخ الصحافة، أقلها نوعية الخطوط الرديئة، عدم وجود أفلام.. الخ، والأمر المهم الذي كان يؤرق الأستاذ "عادل حسين" هو عنصر الوقت والسرعة والسيطرة الكاملة على الوحدة، حتى لا تحدث أي مشكلة تؤخر أو تعوق الصدور.. وبعد عدة شهور من التجارب والاستعدادات المكثفة للإصدار لليومى، وماكيتات تعتمد وأخرى يتم تغييرها، واستقبال أكبر عدد من الشباب الواعد، كانت هناك اجتماعات أسبوعية، وفى أحد المرات طلب منى الأستاذ "عادل حسين" تقرير يتم مناقشته في هيئة التحرير على ضوئه يتم تحديد أشياء كثيرة، وفى الاجتماع كان السؤال واضحا عن الوقت الذي تستغرقه الصفحة من أول الصف- الجمع- إلى التصوير النهائى، أجبت تقريبا ساعة ونصف، والصفحة الأولى خمسة واربعين دقيقة نظرا لأن المادة التحريرية تكون أقل بكثير من أي صفحة داخلية.. وهنا تحول "عادل حسين" إلى شخص آخر لم اشاهده من قبل، رغم أنى أعمل معه منذ سبع سنوات!قال: ازاى الكلام ده؟ اكيد فيه حاجة غلط.. لا مش حاجة واحدة.. اكيد حاجات غلط.. احنا شفنا تجارب في لندن الصفحة تخلص في ربع ساعة فقط.. مستحيل يكون كلامك صحيح، واضح انكم مش شايفين شغلكم كويس.. كده فوضى!للاسف شعرت من كلماته أن هناك أحد الزملاء دس له معلومات غير أمينة، غضبت وكعادتى دافعت عن تقريرى السليم مائة في المائة، وبدون تحديد قلت من بلغ حضرتك معلومات خطأ يبقى جاهل أو مغرض سافل! الطريف أن الشخص الذي كنت اقصده كان يجلس بجوارى وعرفت من هو!لم أنم في ليلتى كيف يتم تجهيز صفحة من الألف الياء في خمسة عشرة دقائق؟ راجعت كل الخطوات التي أنفذها والجميع يعرف مدى الدقة والانضباط غير عادى في عملى، هدانى الله إلى أن البروفة التي شاهدها أستاذى "عادل حسين" في لندن هي صفحات جاهزة، وتم فقط الشرح لهم على صفحات جاهزة، ولكن الأمر لدينا مختلف.. في اليوم التالى وأثناء الاستعداد للعدد الاسبوعى والوحيد حتى هذه اللحظة، وصل الأستاذ "عادل حسين" وكعادتى كنت في قمة التركيز والغضب لأنه الأقرب والأحب إلى نفسى وأزعم أننى مصدر ثقة له بلا حدود، استبقلبنى بابتسامة باردة وملامح وجهه ليست على ما يرام، جلست طالبا فقط خمس دقائق.. سألته في لندن هل حضرتك شاهدت المادة التحريرية مكتوبة بخط اليد؟ هل رأيت بروفات التصحيح مرتين؟ هل رأيت الماكيت مرسوم بالرصاص وعليه تعديلات وشخابيط وصور موجودة وصور ناقصة؟ هل رأيت بروفات التصحيح للصفحات؟ وأكملت: الإجابة بالطبع لا.. نعم الإجابة لا.. لأن البروفة التي تم عرضها عليكم، هي صفحات منتهية من كل مراحلها والمشاهدة فقط مع الشرح استمر خمسة عشر دقيقة.. استاذى تقديراتى دقيقة وأفضل من أي مكان ممكن ننفذ فيه، الأهرام كنا نعطيهم المادة التحريرية في يوم وفى اليوم التالى أحيانا الصفحة كانت تنفذ في ساعات!تركت "عادل حسين" دون أن يرد على بكلمة واحدة، لاننى تعمدت أن يفكر فيما قلته أنا لست أمامه، وفى نهاية اليوم ونحن نتناول سندوتشات الفول والطعمية وضع يده على كتفى، قائلا: عايز تقنعنى هو اننا انضحك علينا؟ عموما كلامك فيه الكثير من المنطق والعقل!بعد هذه الواقعة بتسعة سنوات وبالتحديد في 1997 وفى إستاد الملك فهد بالسعودية، كنت في رحلة لتغطية بطولة العالم للقارات بدعوة من الأمير "فيصل بن فهد"، وجدت شابا عرفت فيما بعد أنه صحفى برازيلى، معه جهاز كمبيوتر في الإستاد –اللاب توب- وطوال المباراة يكتب ولا أعرف ماذا يكتب؟ وفى نهاية اليوم تعرفت عليه من خلال المرافق السعودى، وعرفت منه أن يكتب وما يكتبه يرسله مباشرة إلى صحيفته التي خصصت مساحة له معينة، وما يرسله ينزل مباشرة في المساحة المخصصة له وأن رسالته محددة بعدد من الكلمات لا يزيد ولا ينقص عنها، وسألته عن الصور، أجاب أنهم يحصلون عليه مباشرة من التليفزيون بتقنية عالية ممتازة!لا أدرى لماذا تذكرت قصة وفد جريدة الشعب في لندن عندما أقنعوا "عادل حسين" ومن معه بأن الصفحة لا تستغرق أكثر من ربع ساعة، ومشاهدتى لقاء كبار المسئولين في أماكن التكنولوجيا عندما يتم الشرح لهم، والرقمنة والحكومة الذكية وخلافه، والأرقام التي يتم الإعلان عنها ويهلل البعض لها دون إدراك لحقيقة صحة أو عبث ما يعلن، وطبيعى عندما يعرض على الشاشات رسومات وأرقام شىء جميل ولكنها تشبه التلميذ الذي يحفظ ولا يفهم، فيضطر الرئيس السيسي للشرح ليس للمواطن بل حتى لهؤلاء الذين يقدمون الأرقام والصور المبهرة.نعم للرقمنة ولكن يبقى بناء الإنسان أولا.وتحيا مصر..