لفتات العدالة الناجزة
لفتة جديدة من لفتات العدالة الناجزة لاحت في منظومة العمل القضائي تزرع الأمل في نفوس المواطنين الذين يتطلعون إلى الحرية والشعور بالثقة والطمأنينة بأن عهد الظلم قد ذهب بلا عودة، وأن المواطن هو موضع اهتمام جميع سلطات الدولة بما فيها السلطة القضائية.
كانت بداية قصتنا مُحزِنة، فقد ألقِي القبض على عدد تسعة مواطنين بدائرة قسم شرطة روض الفرج، وفي ظروف وملابسات غامضة، على خلفية اتهامهم باستعراض القوة والتلويح بالعنف بقصد ترويع المواطنين، فضلًا عن اتهام بعضهم بإحراز أسلحة بيضاء دون مسوغ من الضرورة المهنية والحرفية، وذلك في الخامس من أكتوبر الماضي.
والواقعة على ما بها من غموض سنكشف تفاصيله لاحقًا قُيدتْ برقم ٦٥٢ لسنة ٢٠١٩ جنح أمن دولة طوارئ روض الفرج، وأحيلت للمحكمة المختصة حيث تم نظرها بجلسة 12 أكتوبر الماضي، وقضت في 19 أكتوبر بمعاقبتهم جميعًا بالحبس خمس سنوات لكل منهم مع الشغل والنفاذ، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة مدة مماثلة.
ومن نافلة القول إن هذا النوع من القضايا يلزم لتنفيذ الأحكام الصادرة فيه التصديق عليها من رئيس الجمهورية إعمالًا للقانون رقم ١٦٢ لسنة ١٩٥٨ "قانون الطوارئ"، ومن هنا تبدأ المفاجآت، فقد استقر في أذهان المهتمين بمجال القانون أن ذلك الشرط هو إجراء شكلي، وأن التصديق على الحكم أمرٌ محتوم لا شك فيه، ولكن المادة ١٤ من ذلك القانون جعلت من سلطات رئيس الجمهورية تعديل أو تخفيف العقوبات في حالة الإدانة من المحكمة، أو إلغاء الحكم والأمر بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى، وهو ما انتهى إليه مكتب شئون أمن الدولة بـرئاسة الجمهورية" في القضية المشار إليها عاليه.
وقد اشترط القانون تسبيب الأمر بإعادة المحاكمة، وهنا تظهر لنا أولى المفاجآت وهي أن بين المتهمين بتلك التهم الخطيرة امرأة، وطفل كان هو أحد أسباب إعادة المحاكمة، حيث كان يتعين محاكمته أمام المحكمة التي نص على تشكيلها قانون الطفل رقم ١٢ لسنة ١٩٩٦ والمعدل بالقانون رقم ١٢٦ لسنة ٢٠٠٨ وهي محكمة الأحداث.
ولم تقف المفاجآت عند هذا الحد، بل تضمن تسبيب الإلغاء أن الحكم المذكور قد شابه قصورُ في التسبيب والخطأ في تطبيق القانون، نظرًا لما شابه من الغموض والإبهام، فلا هو أوضح الواقعة المستوجبة للعقوبة بركنيها المادى والمعنوي اللتين دانهم بهما، ولا هو حدد الأفعال التي أتاها كلٌ منهم وصولًا لدورهم في ارتكابها، فضلًا عن عدم بيان الظروف التي وقعت فيها أو كيفية القبض عليهم، والحالة التي كانوا عليها وقت الضبط.
وتضمنت حيثيات مكتب شئون أمن الدولة أن الحكم لم يورد أدلة الثبوت التي استند إليها في قضائه بالإدانة بالمخالفة لنص المادة 310 من قانون الإجراءات الجنائية، ويضاف إلى ذلك أن المتهم التاسع حوكم أمام محكمة أمن الدولة طوارئ رغم كونه طفلًا وفقًا للمستندات المقدمة في هذا الشأن، ولم يبين الحكم بوضوح سواء في معرض إيراده أو في سرده لأدلة الثبوت فيها تفصيل الوقائع والأفعال التي ارتكبها كل من المحكوم عليهم من المتهم الأول حتى المتهم الثامن لارتكابهم الجريمتين اللتين دانهم بهما وصولًا لدور كل منهم في ارتكابها.
وجاءت مدونات الحكم قاصرة في بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة بيانًا تتحقق به أركان الجريمتين اللتين دانهم بهما، والظروف التي وقعت فيها وكيفية ضبط المحكوم عليهم والحالة التي كانوا عليها وقت الضبط، وفي بيان مؤدى أدلة الثبوت بيانًا كافيًا يبين فيه مدى تأييده للواقعة كما اقتنعت بها المحكمة، فكان الحكم معيبًا بالقصور في التسبيب بما يستوجب إلغاؤه والإعادة بالنسبة للمحكوم عليهم من الأول حتى الثامن، وإلغاء الحكم وإعادة الأوراق للنيابة العامة، لاتخاذ شئونها فيها بالنسبة للمحكوم عليه التاسع بالنظر إلى أنه لم يتجاوز الثامنة عشر وفقًا لشهادة ميلاده.
وقبل أن يُسدَّل الستار على هذه الواقعة، فقد لزم التنويه عن أن مثل هذا القرار يبعث في النفوس الطمأنينة، وأنه لا مجال لظلم الأبرياء، وأن الحقيقة ستظهر ولو طال الأمد، والمصريين ينتظرون مزيدًا من القرارات الشجاعة على غرار ما صدر عن مكتب شئون أمن الدولة، حيث يتعين على الإعلام الواعي القيام بدوره لنشر هذه الحقائق.. وللحديث بقية..