الأحزاب السياسية وقانون الأحوال الشخصية
خلال سنوات من الموات لم تنتبه الأحزاب السياسية في مصر إلى نشوء ثورة ذات شعارات مطلبية بعيدا عن أوهامها في الصعود إلى السلطة، فكان النصف الأول من عهد مبارك لها حالة من التوهان استثمرتها جماعة الإخوان في اختراقها.
ومع إطلاق مشروع الخصخصة في مصر؛ تشكلت ملامح تلك الثورة المطلبية، متأثرة ببيع المصانع وتدني الأجور وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، ومن زاوية أخرى؛ بتداعيات وجاهة استضافة مؤتمر السكان العالمي وتوقيع اتفاقية "السيداو" وتمرير تشريعات سنة٢٠٠٠ للأسرة وما أعقبتها من تعديلات.
في غضون ذلك؛ باتت الأحزاب لأسباب شتى أبرزها الصراع الداخلي والاختراق السياسي والديكتاتورية المتأصلة في قيادتها، طاردة للطامحين، الذين وجدوا متنفسا محدودا في العمل المدني رغم قيود القانون ٨٤ لسنة ٢٠٠٢ وقتئذ، فباتت الحرب على إصلاح مناخ العمل الأهلي بدلا من السياسي؛ وقامت الحملات المتكررة محليا ودوليا لهذا الغرض.
تلك الحملات جاءت بالتوازي مع إعادة بناء الرؤية الغربية لشرق أوسط جديد ثم أوسع نطاقا، بعد سبتمبر ٢٠٠١ وتأكدت بعد الغزو الأمريكي للعراق في ٩ أبريل ٢٠٠٣، وأثمرت تلك الرؤية عن هدف أصيل لواشنطن والغرب؛ وهو إبعاد مشكلات مواطني عالمنا العربي عن مجتمعاتهم؛ وحصارها داخل حدود دولنا؛ بالنقاش الداخلى أو الصراع المجتمعي ثم التغيير.
كان قلب موازين الاقتصاد والإطاحة بما تبقى له من ملامح اشتراكية كافيا لتنفيذ البعد الاجتماعي في الخطة بتعديل ٣٤ مادة من دستور ١٩٧١ في ٢٦ مارس ٢٠٠٧، وبعد قيام ثورة يناير ٢٠١١ لم تسع جماعة الإخوان سوى لوضع بصمتها على دستور جديد يرسخ عقيدتها الاقتصادية في قيادة الرأسمالية التجارية للبلاد، حتى شهدنا تعديلاته في ٢٠١٤ وما بعدها ليصير النموذج المدون له هو الاقتصاد المفتوح.
وسط تكاثر تلك الأسباب التي أتت على الاستقرار الاجتماعي بالضرورة؛ كانت الأحزاب مشغولة بالقشور من جواهر القضايا؛ وإن صورت لك ضخامة خصمها السياسي؛ مبارك ومن بعده الإخوان، وكلاهما لن تجد حزبا لم يتعاون أو يتحالف معهما وبقاياهما قبل أو بعد يناير ويونيو أيضا.
في هذا المناخ؛ ظلت تربية الشباب مدنيا وسياسيا منذ ١٥ سنة منحصرة تقريبا فيما تلقيه المنظمات الحقوقية وبعض الكيانات غير المتأصلة سياسيا والمستقرة مؤسسيا؛ ومع تراجع القدرات الاقتصادية للأسر وضعف مخرجات التعليم في تلبية احتياجات سوق العمل أو بناء عقول واعية أكثر من اهتمامها بالمعرفة، ظهرت نخبة جديدة تجسدت في نشطاء وناشطات العمل الأهلي على تنوع ميولهم واتجاهاتهم وأهدافهم.
بدت مجموعات من تلك النخبة تخاطب المجتمع وكأنه يجهل مشكلاته الأساسية؛ وأصبحت تتعامل معه من علياء معرفة بالمواثيق والمعاهدات الدولية؛ مع اجتزاء ما يلزمها لترويجه بحسب أغراضها وبوصلة المنح المقدمة لمشروعات مؤسساتها.
من هنا؛ بدت مجموعة الناشطات وكأنها أكثر وعيا؛ وليس معرفة؛ من قيادات الأحزاب ذاتها؛ ببوصلة التوجه الدولي والإقليمي نحو تمكين المرأة كمثال؛ فحصرته في تمرير مكتسبات بقانون جديد للأحوال الشخصية والأسرة؛ وتاهت مع أجندتها أهداف التمكين السياسي والاقتصادي.
لاحظنا مع نشاط أولئك؛ شطحات عضوات لجان نسوية داخل أحزاب تاريخية ويسارية مدفوعة بنزعة جندرية معبأة داخل تلك المنظمات، حتى إذا ما حاول حزب من بين أكثر من مائة؛ مناقشة مستقبل الأسرة والمجتمع في ظل التشريعات الاجتماعية، أحال مقترحاته إلى علم الغيب، فيما تجرعت أحزاب حبوب الشجاع بوجه ناشطات كهؤلاء ولفظتهن بالفعل جراء تطرف نظرياتهن، لكن ظلت تلك الأحزاب ذات مواقف ضعيفة تائهة عند مناقشات محدودة حول أزمة القانون مع المضارين أو تحت القبة؛ فاكتفي نواب بتقديم تعديلات بسيطة، مقابل مقترح مشروع قانون أعدته منظمات نسوية ونحو ٩ لجان نسائية حزبية ناقشت بنوده وروجت له داخل تلك الأحزاب؛ دون فهم صحيح لأهدافهن من قياداتها.
هنا يمكن تقدير موقف البرلمان من مناقشة مشروع القانون؛ وأغلب وأكبر كتله الثلاث منتمية حزبيا؛ وكثير من المستقلين يميلون إلى النموذج الحزبي القديم أو يرتبط بحالته المستحدثة غير معلومة التوجه، ليفقد المضارون من القانون جولة الحوار حول مستقبل الأسرة مع الأحزاب والنواب على السواء، دون انتباه منهم إلى أن انطلاقة التشريع ستكون من نقطة الحكومة؛ ممثلة في لجنة وزارة العدل التي لا يعلمون شيئا كثيرا عنها.
بوصلة الحوار حول مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية والأسرة لابد وأن تكون لها وجهة أخرى جديدة؛ مع اقتراب نهاية دورة برلمان ربما يختتم أعماله بتشريع يزيد الأزمة؛ مع ضغوط كثيرة عليه يؤكدها نواب لنا بين الحين والآخر، بخلاف آلية التصويت التي لا تسمح بنقاش هاديء مستقر حول مواد القانون على الأغلب.
ولتكن تطلعات بناء حوار في اتجاه جديد؛ مع كل التقدير لاختصاص المجلس بالتشريع، لكن صناعة الفكرة لا تجرى تحت قبته بالضرورة.