رئيس التحرير
عصام كامل

فتاوى الشيخ "حماصة".. فى "أدب النجاسة"


منذ زمن ليس ببعيد؛ كان لنا صديق يدعى "حماصة"، حتى إن كثيرين كانوا يظنون تلك الكنية اسما، بينما قليلون جدا هم من ينادونه باسمه الحقيقى "محمد".. منّ الله على حماصة ببسطة فى العلم والهداية، لا حدود لهما، بعد أن اختفى عن أعيننا عاماً وبضع عام، لينهل من العلوم الدينية فى مجالس أهل الفقه والسنة والحديث والتفسير، وما لبث أن عاد إلينا بثوب جديد، تزينه لحية من التقوى، ونور فى وجهه عن صدق وإيمان، غير كثير ممن تشبثوا بعد الثورة بأطراف جلاليب الإخوان والسلفيين.


كان حماصة تاجراً شاطراً، ابن بلد، خفيف الظل فى ثوب داعية شاب، خشوعه وسجوده وركوعه لا يمنعونه من أن يفهمها وهى طايرة، ولهذا لم أتردد فى قبول فكرته عندما اتفقنا على أن نتشارك سوياً فى محل لتجارة الملابس الكاجوال، والحقيقة أننى ألقيت على كاهله مهمة التأسيس وشراء البضاعة، ومتابعة البيع والشراء، بينما كنت أمر عليه من حين لآخر، لأعرف أخبار المحل، وأحصل على نصيبى من ربح الشهر، حتى جاء ذلك اليوم!..
التقطت عينا حماصة كتابا فى يدى، وأنا مقبل عليه، كان نهماً للقراءة فى مختلف المجالات..
قال بلهفة: كتاب إيه ده ياحاج مصطفى؟..
أجبته بتردد: دى رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسوانى..
صمت قليلا.. قطع الحوار لثوانى.. وكأنه يخشى أن يطلب استعارتها منى، فتتحطم صورته فى عينى.. ولكننى لمحت الرغبة الملحة فى تصفحها تقفز من عينيه.. فمددت يدى بها له قائلاً: "لوعايز تقرأها يا مولانا خد.. أهو برضه من باب المعرفة".
التقطها من يدى قائلاً: أهو نبص فيها وقت الفراغ.. ميضرش.
بعد يومين عدت للشيخ حماصة لأسأله عن الرواية.. ولكننى وجدت شرارات الغضب تتقافز من عينيه.. محاولاً كظم غيظه قال: أنت دفعت فى الرواية دى كاااام؟ فقلت له: 15 جنيها ياعمنا.. ليه.. عايز تاخدها؟ فقفز من فوق كرسيه صائحاً: أخد إيه ياعم.. أستغفر الله العظيم.. ربنا يسامحك يامصطفى.. خليت إيدى تمسك النجاسة دى.. أعوذ بالله أعوذ بالله.

حاولت تهدئته متسائلاً: نجاسة إيه يامولانا، الله يكرمك، "اهدى بس .. فى إيه مش عاجبك؟..
فصاح: ياراجل ده.. والعياذ بالله.. كاتب مشاهد فيها لواط بين اتنين رجالة ده غير مشاهد البلاوى اللى بين الحريم والرجالة.. أستغفر الله ده خلى دماغ الواحد تتخيل وتشت.

لم يدع لى فرصة للرد، حينما قاطعنى فاتحاً درج المكتب، ليلقى بالرواية أمامى، وهو يقول: أمسك ياعم مصطفى.. الله يهديك .. أنت عايز تشيل وزر الحاجات دى براحتك، حسابك عند الله، إنما ده محل أكل عيش والحاجات دى بتقل بركة الرزق وبتطرد الملايكة.. كانت ضحكاتى المرتفعة تستفزه بينما يبحث هو عن ملف القرآن الكريم بين ملفات الكمبيوتر، ليشغل سورة تغسل ألسنتنا وقلوبنا من الحديث عن نجاسات الأدباء.

مرت الواقعة ولم تتأثر شراكتنا أو صداقتنا.. فإحقاقاً للحق كان الرجل يحترم وجهات النظر.. ولايكره أحداً فى الدين.. ولا يمقتنا فى لحظات الاختلاف بنظرات التكفير وعبارات التحريم والتحليل.. ولكن حدث بعد ستة أشهر أن أصيبت تجارتنا بحالة من الكساد المر.. ومع ارتفاع إيجار المحل ومشاكل الاستيراد؛ قرر الشيخ حماصة إغلاق المحل والخروج بأقل خسائر ممكنة، ولكنه لم ينس أن يعلنها لى صراحة ولأول مرة: منك لله ياعم.. كنا ماشيين زى الفل.. بس النجاسة اللى رمتهالنا فى المحل جابتنا ورا.. ومرت على القصة ثمانى سنوات وأكثر، ومازال الشيخ حماصة مقتنعاً بأن عمارة يعقوبيان السبب، ومازلنا نتذكر الواقعة ونتجادل سوياً وننهى الجدل بالضحك.. خيبك الله ياشيخ حماصة.
الجريدة الرسمية