رئيس التحرير
عصام كامل

محمود فوزي يكتب: القرآن وأسبقيته الأبدية لعلوم الإعلام

د. محمود فوزي
د. محمود فوزي

يزخر القرآن الكريم بالعديد من المعجزات في كافة المجالات، ولكني أتوقف في هذا المقال عند معجزة لغوية واتصالية في ذات الوقت، وهي أسبقية كتاب الله تعالى في التنظير الإعلامي والاتصالي لمبادئ وأسس الحوار الإنساني التفاعلي ثنائي الاتجاه بين طرفي العملية الاتصالية؛ المرسل والمتلقي.


فعندما قدم خبيرا علم الاجتماع والإعلام (كانط & تايلور) عام 2002 نظريًة إعلاميًة؛ عرفت بالاتصال الحواري عبر الإنترنت؛ كان هدفهما الرئيسي هو التنظير لأسس إدارة التفاعل والعلاقات مع الجماهير عبر مواقع الويب ووسائط الإنترنت المختلفة؛ من مواقع ومنتديات وبوابات إلكترونية وتطبيقات رقمية وغيرها.

وتقوم النظرية على خمسة مبادئ حوارية تضمن سلامة التفاعل والحوار الإلكتروني المشترك بين زوار هذه المنصات والقائمين عليها، فيتحول الويب لنافذة حوارية تفاعلية تسمح بتبادل الآراء بين زوار الموقع وبين القائمين على إدارته؛ متمثلة في سهولة استخدام المنصة الإلكترونية، وجودة وصحة معلوماتها، وقدرتها على الاحتفاظ بزوارها، وتشجيعهم على معاودة وتكرار الزيارة والتصفح لمرات أخرى متعددة، وأخيرًا إنشاء حلقة حوارية بين زوار الموقع ومسؤوليه.

وقدمت النظرية شروطًا منهجية لهذا الاتصال الحواري؛ متمثلة في مصداقية الحوار وعدالته بأن يتم على أسس من المساواة بين طرفي الاتصال (المرسل والمتلقي) دون اتباع أي منهما لأي شكل من الازدراء أو التسفيه أو السخرية من رأي الآخر، فالغرض الأساسي من هذا الحوار هو الاقتناع وبلوغ الحقيقة، وليس هزيمة أي طرف للآخر حتى وإن اختلفا في معتقداتهم وقيمهم.

لقد ظلت هذه النظرية إلى الآن تمثل تأصيلًا نظريًا للعديد من الدراسات الإعلامية؛ لكنها لم تذكر أنها اقتبست العديد من مبادئها الحوارية من القرآن الكريم؛ الذي أكد منذ آلاف السنين على مفهوم الحوار وتبادل الآراء وتغليب المصالح العامة على الرغبات الذاتية لأطراف الحوار وإن اختلفوا في عقائدهم.

فلننظر إلى سمو الحوار القرآني في سورة الكهف بين مؤمن بالله وآخر كافر جاحد بنعمه؛ يقول تعالى بسم الله الرحمن الرحيم "وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا (34) ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا(36) قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37)" صدق الله العظيم.

لقد أكدت الآية الكريمة منذ آلاف السنين على قيمة الحوار الإنساني الراقي القائم على أسس من المساواة وسمو الخلق بين طرفي الحوار الهادف إلى بلوغ الصواب، وسرد الحجج والبراهين المؤيدة له، ومن ثم لامجال للكذب أو المجادلة الباطلة بغير الحق؛ لذا ذكرت عبارة "وهو يحاوره" مرتين في الآية الكريمة تأكيدًا لهذا المعنى، فالمبدأ ثابت وهو إعلاء قيمة الحوار واحترام الآراء وإن اختلف المتحاورون.

ولم تكتف الآية الكريمة بتوظيف الاستمالة العقلية والمنطقية؛ في سبيل محاولة المؤمن إقناع نظيره الكافر؛ بل جاءت الاستمالة العاطفية ممزوجة باستمالة التهديد والترغيب في آن الوقت واضحة تمامًا؛ من خلال الإشارة إلى قدرة الله على أن يزيل نعمه من الكافر، ويدخل المؤمن فسيح جناته في الآخرة، وهو المعني المتجسد في قوله تعالي؛ بسم الله الرحمن الرحيم "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا" صدق الله العظيم.

ستظل دائمًا وأبدًا علوم الاتصال تقتبس نظرياتها ومبادئها النظرية من القرآن الكريم وسنة رسوله؛ مع السعي المحمود للباحثين والعلماء نحو تطوير هذه المبادئ وتطويعها؛ وفقا لمتغيرات المجتمع ومستحدثات التكنولوجيا سريعة التطور.
الجريدة الرسمية