الإعلام والأجهزة الأمنية
تتجدد دماء الكتابة عن علاقة الإعلام بأجهزة الأمن كلما لاح جديد، والسجال الدائر حاليًا في بعض الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي حول التدخلات الأمنية في المنظومة الإعلامية هو ما يجدد دماء الكتابة في هذه القضية، فما بين معارض للتدخل وآخر نافيًا له كان السجال المعلن الذي تتوقف ردود فعله بعد أيام من نشره، أما سجال الغرف المغلقة حول نفس القضية فلم يتوقف.
مجموعة من التساؤلات تحسم الإجابة عنها الجدل الدائر، وتوقف نزيف الاتهامات المتبادلة، هل من حق الأجهزة الأمنية التدخل في توجيه الإعلام؟ وهل ينعكس هذا التدخل إيجابيًا على المنتج الإعلامي؟ وهل تدخل الأجهزة قاصر على مصر فقط؟ وهل هذه التدخلات مستمرة أم ترتبط بأزمة وتنتهي بانتهائها؟ وهل هناك ندية بين القائمين على الإعلام والأجهزة الأمنية، أم أن العلاقة بينهما تكاملية؟
بداية، وبعيدًا عن المزايدات والتشنجات والاتهامات.. لا يوجد إعلام تابع لدولة إلا ولديه أجندته الخاصة التي تخدم مصالح هذه الدولة، يستوي في ذلك الدول الديمقراطية والساعية إليها والعازفة عنها، حتى الإعلام الخاص في دول العالم لديه أجنداته التي تخدم توجهاته السياسية ومصالح أصحابه، وتتزايد التوجيهات الأمنية للإعلام في الظروف الاستثنائية التي تمر بها الدول.
فالمعلومات التي تهدد الأمن القومي للدول لا توجد إلا لدى الأجهزة الأمنية، وهنا تتكامل العلاقة بين الإعلام والأمن عندما يحصل الأول على معلوماته من الطرف الثاني، وتتقلص العلاقة بين الطرفين بانتهاء الظروف الاستثنائية التي تعيشها الدولة، لكنها لا تنتهي، وحاجة الإعلام للمعلومة يقابلها حاجة الأجهزة الأمنية لتوعية المواطن، ومصر ليست استثناءً، فما يسري على غيرها يسري عليها.
تعالوا إلى «بي بي سي» فقد أشرنا في هذه الزاوية سابقًا أن المحطة الأعرق في العالم تخضع لتدخلات من الأجهزة الاستخباراتية، ودللنا على ذلك بشهادة أحد من عملوا بها والذي أكد أن اجتماع «العاشرة إلا ربع» الذي يحضره عدد محدود من القائمين على المحطة يشهد توجيهات مخابراتية تنعكس على القضايا التي تناقشها البرامج..
وقناة الجزيرة التي خرجت من عباءة «بي بي سي» تعمل بنفس الطريقة، ولو لم تكن كذلك لتطرقت لقضايا قطر الداخلية وناقشتها بحرية، وحتى نكون منصفين.. التدخلات الأمنية تطال كل المحطات، حتى التي يمتلكها رجال أعمال لا تخلو من توجيهات، بعضها يأتي استجابة لأجهزة سيادية يخشاها ملاك القنوات.. والبعض الآخر يأتي من صاحب القناة نفسه.
وفي مصر كانت التدخلات الأمنية في المنظومة الإعلامية موجودة في كل العصور، وكاذب من يدعي غير ذلك، والعلاقة بين الصحفي والأجهزة الأمنية لابد أن تتوطد في الظروف الاستثائية، فالأول بحاجة إلى معلومة لا يوفرها له إلا الثاني، أما الأزمة الحقيقية التي خلقت السجال الدائر مؤخرًا حول التدخلات الأمنية في الإعلام فلها أسباب أخرى.
أبرزها أن القائم بالاتصال من الطرفين يباهي بما يفعل، فمن يوفر المعلومة يبدو وكأنه يدير الإعلام، ومن يتلقاها يفاخر بعلاقته بمن يزعم أنه يدير، كما أن الأول لم يقصر علاقته على شخص واحد يتعامل معه، فامتدت علاقاته بكثيرين داخل المكان الواحد، وهو ما جعل المتعاملون معه يتنافسون على توطيد علاقاتهم به، أما السبب الأبرز فهو حالة الكسل التي انعكست سلبًا على أداء بعض الإعلاميين، فالمعلومة قد تأتي من جهاز أمني فيقدمها الصحفي حرفيًا دون تدخل لنفاجأ بأن المفردات المستخدمة واحدة في أغلب الصحف والقنوات، ولو حاول البعض استبدال مفردات بأخرى لن يضيره ذلك.
التدخلات الأمنية في الإعلام موجودة في كل دول العالم، لكنها تتمدد وتتقلص وفقًا للظروف التي تعيشها كل دولة، ومصر ليست استثناءً، وما دون التدخلات التي تخص الأمن القومي.. فالإعلامي حر في تقديم منتجه بالطريقة التي تميزه عن غيره.
besheerhassan7@gmail