عباس محمود العقاد: خواطر مع أسمهان
نشرت مجلة الهلال عام 1968 مقالا للأديب عباس محمود العقاد عبارة عن خواطر عن المطربة الشامية الراحلة اسمهان (ولدت في 25 نوفمبر 1912، رحلت 1944) قال فيه:
إن أسمهان رحمها الله لم تكن في غرائب أطوارها أغرب من سارة برنار أو ايزادورا دنكان، وقد جزيت كلتاهما خيرا من جزاء أسمهان، وحفظت ذكراهما في الرسائل والكتب والتعليقات الصحفية، وجمعت لهما أخبارا وأقوالا لا تزال حتى الساعة بين يدي القراء في البلاد الأوروبية والأمريكية، وهي بلا ريب معرض للدراسة ومادة من مواد القراءة الشائقة لكل من الجنسين.
وصفوة القول بعد المقابلة بين جميع الوجوه أن الفنانة ضحية، قليلة الجزاء ولو ظفرت بالسمعة والمال، ضحية بينها وبين نفسها لأنها تستجيب بفطرتها لجميع المؤثرات، وتعاني في سبيل إحساسها كل ألم وجيع يعرفه اللحم والدم، وكل تجربة قاسية يصطدم بها الشعور الوثاب المتجدد بسرعة.
وضحية بينها وبين المجتمع لأنه يطالبها بحقوقه ويفرض عليها أحكامه ولا يغفر لها أن تخرج عليه، وهي إنما تخرج عليه لأنها تستجيب للمؤثرات في أوقاتها، ودائما يصفق لها المجتمع وبالفرط الحيرة والعجب من أجل ذلك الشعور المستجيب.
وضحية بينها وبين فنها لأنه يفرض عليها أن تنسى نفسها وأن تنسى المجتمع وأن تنسى كل شيء في سبيله ولا تذكر في سرها وفي علانيتها شيئا سواه، فإذا لامها الناس فليلوموا منصفين، وإذا لامها الناس على التضحية بغيرها فليذكروا مع هذا اللوم تضحيتها بنفسها وتضحيتها بكل عزيز لديها.
وما أظن أن أسمهان رحمها الله أشقت أحدا بغرائبها كما أشقت قلبها وضميرها وجسمانها.. وفى ذلكم شفيع مقبول، إن كان لا بد من شفيع.
سمعت أسمهان قبل يومها المشئوم بيومين أرسلت في طلب الأسطوانة التي كانت تغنيها في ذلك اليوم فقيل لى إنها نفدت من المخازن، وقد توجد في بعض الدكاكين، فلما كان عصر يوم الجمعة إذا بالرسول الذي كلفته أن يبحث عن الأسطوانة يدق التليفون ليبلغنى أنه لا أمل له في وجودها وإذا ببائع الصحف يقبل بالمقطم وفيه نعى أسمهان.
من الذي يسمع ذلك الصوت المنطلق، من ذا الذي يسمعه ولا يحس أنها قد صبت في غنائها خلاصة وجودها الوهاج.
إنها في كل أنشودة من أناشيدها المرفرفة لقبرها تطير، وأنها في كل كلمة تهتف بها لتلقى على الأرض كلمة التوديع.. فكان غناؤها كله تحية ووداعا.