"الحُصَرى".. قارئٌ عابرٌ للقارات والعصور
في خمسينيات القرن الماضى، تشكَّلتْ لجنة فنية لاختيار قارئ للسورة بالمسجد الحُسينى، ضمَّت كلًا من: شيخ عموم المقارئ المصرية "محمد الضبع" رئيسًا، والأستاذ بمعهد القراءات الشيخ "عبد الفتاح القاضى" عضوًا، والمدرس بمعهد القراءات الشيخ "عامر عثمان" عضوًا.
أمَّا القُراءُ الذين خضعوا للاختبار أمام اللجنة، فكانوا عشرة، جاء ترتيبهم على النحو التالى: "طه الفشنى"، "عبد الباسط عبد الصمد"، "محمود على البنا"، "كامل يوسف البهتيمى"، "عبد العظيم زاهر"، "أبو العينين شعيشع"، "مصطفى إسماعيل"، "محمود خليل الحصرى"، "محمد صديق المنشاوى"، و"محمد سلامة"، رحم اللهُ الجميعَ وأحسن مثواهم.
وقعَ اختيارُ اللجنة بالإجماع على الشيخ "محمود خليل الحصرى"، وكان عمره يومئذ 38 عامًا، ووصفته نصَّا بأنه "أجودُ القراء المذكورين وأحسنُهم أداءً؛ وقراءتُه أكثرُ مُطابقة لقواعد التجويد وقوانين الأداء".
وأمس الموافق الرابع والعشرين من الشهر الجارى، حلَّت الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاة الشيخ "محمود خليل الحصرى"، أحد أعمدة دولة التلاوة في عصرها الذهبى، وواحدٌ من أشهر مَن رتلوا كتاب الله ترتيلًا، حيث طافَ صوته العالمَ بأسره، وكان عابرًا للقارات والعصور، ولا تزالُ تسجيلاته ومؤلفاته، رغم وفاته قبل تسعة وثلاثين عاماَ، شاهدةً على "عبقرية مُتفردة" في إتقان تلاوة القرآن الكريم ومعرفة أحكامه وتعليمها.
صوتُ "الحصرى" لا يقتصرُ فقط على الإذاعة والتليفزيون في مصر، ولكنه لا يزالُ حاضرًا، وبقوة، في جميع الدول العربية والإسلامية وغيرها، ليس قارئًا فحسب، بل "مُعلمًا" و"مُفسرًا"، لا يجاريه أحدٌ في إتقانه ومهارته وإلمامه بعلوم التلاوة وأحكامها.
أبصرَ "الحصرى" النور، بإحدى قرى مدينة طنطا، العام 1917، وأتمَّ حفظ القرآن الكريم مُبكرًا، وتلقى علومه بالأزهر الشريف، وتخصص في "علوم القراءات"، واختير قارئًا للمسجد الأحمدى في العام 1950، قبل أن يتمَّ اختيارُه لقراءة السورة بالمسجد الحُسينى بعدها بخمس سنوات.
في مرحلة مُبكرة من حياته العملية، وتحديدًا عندما كان مسؤولًا في لجنة مراجعة المصحف، وخلال زيارته للكويت، اكتشف تحريفًا بأحد المصاحف، وكان مطبوعًا في لبنان، وبدا التحريف مُتعمدًا، لأنه كان يهدف إلى تعظيم شأن اليهود، فانتفض، وفور عودته إلى مصر، ذهب إلى وزير الأوقاف، واتفق معه على توثيق القرآن الكريم بصوته؛ حتى لا يتمَّ تحريفُه في قادم الأيام والسنين.
وسريعًا.. دخل "الحصرى" أحد إستوديوهات الإذاعة، وسجَّل القرآن كاملًا برواية "حفص"، ثم تلاه بالقراءات الأخرى، مثل: "ورش" و"الدوري" و"قالون" وغيرها، ورفض الشيخ تقاضي أي أجر عن هذه التسجيلات التي صارت فيما بعدُ "كنزًا عظيمًا"، وفى وقت قياسى تلقفتها الإذاعاتُ ومن بعدها الفضائياتُ، حيث تواظب على إذاعتها بشكل مستمر.
وللتاريخ.. فإنَّ "الحصرى" سجَّل المصحف الشريف برواية "حفص"، العام 1961، وبعدها بثلاث سنوات، سجَّله برواية "ورش". وفى العام 1968، سجَّله بروايتى: "قالون" و"الدوري"، ويتم إذاعة هذه التسجيلات بانتظام عبر إذاعة "القرآن الكريم" المصرية. وفى العام التالى مباشرة، سجل "المصحف المُعلِّم". وفى العام 1975.. سجَّل "المُصحف المُفسَّر".
طافَ "الحصرى" العالمَ لنشر القراءات الصحيحة ومختلف الروايات للقرآن الكريم، وكان يتم استقباله استقبال الملوك والرؤساء، فزار الهند وباكستان في العام 1960، وقرأ القرآن الكريم في افتتاح المؤتمر الإسلامي الأول في "الهند"، بحضور الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" ونظيره الهندي "نهرو".
وبعدها بست سنوات.. اختاره "اتحاد قراء العالم الإسلامي" في باكستان رئيسًا له. وقبلها.. صدر قرارٌ جمهورىٌّ بتعيينه شيخًا لعموم المقارئ المصرية، كما أنه أول من رتل القرآن الكريم في "الأمم المتحدة" في العام 1977، وفى العالم التالى قرأ في مكتبة الكونجرس الأمريكية، وفى القصر الملكى في "لندن"، وقرأ كثيرًا في "الحرم المكى".
وبالتزامن مع هذه التسجيلات.. وضع "الحصرى" عددًا من المؤلفات في أحكام وعلوم التلاوة، من بينها: "أحكام قراءة القرآن الكريم"، "القراءات العشر من الشاطبية والدرة"، "معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء"، "الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير"، "أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر"، "حُسن المسرَّة في الجمع بين الشاطبية والدرة"، و"النهج الجديد في علم التجويد"، ما جعله جديرًا بالحصول على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، في عيد العلم، في عهد الرئيس "عبد الناصر".
وأخيرًا.. فإنَّ هذه المسيرة اللامعة الماجدة للشيخ "محمود خليل الحصرى" جديرة بأن يتم تخليدها وتوثيقها في عمل فنى كبير، على غرار مسلسل "إمام الدعاة"، فمثلما خدم الشعراوى القرآن الكريم مفسرًا وشارحًا وداعيًا إلى الله بالتي هي أحسن، فإن الحصرى خدمه أيضًا قارئًا ورعًا وعالمًا ومُعلمًا لا يجود الزمانُ بمثله.