الاعتراف ليس سيد الأدلة!
لا يُشترط في مجال المساءلة التأديبية توافر الركن المعنوي، أي تعمد الموظف مخالفة القانون أو التعليمات، وإنما يكفي أن يثبت إهماله وعدم مراعاة الدقة والحيطة والحذر فيما يستند إليه من عمل لثبوت المخالفات التأديبية في حقه.
والاعتراف سواء في المسائل التأديبية أو الجنائية من عناصر الاستدلال، فتملك المحكمة الأخذ باعتراف المتهم سواء في حق نفسه أو حق غيره من المتهمين في أي مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة متى تحققت أن هذا الاعتراف سليم مما يشوبه، واطمأنت إلى مطابقته للحقيقة والواقع، وهو في المسائل التأديبية الإقرار من جانب العامل بارتكاب الذنب المسند إليه في قرار الاتهام شريطة أن يكون صريحًا ولا يحتمل التأويل في إرتكاب الواقعة، وألا يكون قد حُرر في حالة فقد العامل إرادته أو اختياره أو تعطل قدراته على الفهم والاختيار كأن يصدر الإقرار منه تحت ضغط إكراه يفقده الإرادة وحرية الاختيار، ومن ثم فإن ثبوت المٌخالفة من واقع إقرار العامل الصحيح يغني عن أي دليل آخر بحسبان أن الاعتراف سيد الأدلة.
وللمحكمة التأديبية الحرية في تكوين عقيدتها من أي عنصر من عناصر الدعوى، ولها في سبيل ذلك أن تأخذ بما تطمئن إليه من أقوال الشهود وأن تطرح ما عداها، حيث لا يُشترط في مجال المساءلة التأديبية توافر الركن المعنوي، أي تعمد الموظف مخالفة القانون أو التعليمات، وإنما يكفي أن يثبت إهماله وعدم مراعاة الدقة والحيطة والحذر فيما يستند إليه من عمل لثبوت المخالفات التأديبية في حقه.
يأتي ذلك لأن القاضي التأديبي يتمتع بحرية كاملة في مجال الإثبات ولا يلتزم بطرق معينة، وله أن يحدد بكل حرية طرق الإثبات التي يقبلها وأدلة الإثبات التي يرفضها وفقًا لظروف الدعوى المعروضة عليه، وللقاضي التأديبي أن يستند إلى ما يرى أهميته ويبني عليه اقتناعه، وأن يهدر ما يرى التشكك في أمره ويطرحه من حسابه فاقتناع القاضي التأديبي هو سند قضائه دون التقيد بمراعاة استيعاب طرق الإثبات أو أوراقه.
والتناسب بين المخالفة التأديبية وبين الجزاء الذي يوقع عنها إنما يكون في ضوء التحديد الدقيق لوصف المخالفة بمراعاة الظروف والملابسات المشكلة لأبعادها، وأن مؤدى ذلك أن جسامة الفعل المكون للمخالفة التأديبية إنما يرتبط بالاعتبار المعنوي المصاحب لارتكابها، بحيث لا تتساوى المخالفة القائمة على الغفلة أو الاستهتار بتلك القائمة على عمد، إذ لا شك أن الأولى أقل جسامة من الثانية، وهو ما ينبغي أن يكون داخلًا في تقدير من يقوم بتوقيع الجزاء التأديبي، على ضوء ما يستخلصه استخلاصًا سائغًا من جماع أوراق الموضوع.
ولذلك فإن الأحكام الجنائية التي حازت قوة الأمر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه، ويعتبر الحكم عنوانًا للحقيقة فيما قضي به، والذي يحوز الحجية من الحكم هو منطوقه والأسباب الجوهرية المكملة له، والقضاء التأديبي لا يرتبط بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان الفصل فيها ضروريًا، أي أن القضاء التأديبي يتقيد بما أثبته القضاء الجنائي في حكمه من وقائع وكان فصله لازمًا دون أن يتقيد بالتكييف القانوني لهذه الوقائع.
فقد يختلف التكييف من الناحية الإدارية عنه من الناحية الجنائية، فالمحاكمة التأديبية تبحث عن مدي إخلال العامل بواجبات وظيفته حسبما يستخلص من مجموع التحقيقات، أما المحاكمة الجنائية فينحصر أثرها في قيام جريمة من الجرائم الجنائية، وقد يُشكل الفعل الجنائي في نفس الوقت مخالفة إدارية، وبالتالي يعتبر الحكم حجة فيما فصل فيه، ولا تعاود المحكمة التأديبية المجادلة في إثبات الوقائع التي سبق للحكم الجنائي إثبات وقوعها.. وللحديث بقية.