أوجاع "حسن طوبار"
أعتقد أنه لا مستقبل لأمة بلا ماضٍ، أو تتنكر لتاريخ زعمائها وقادتها، لدرجة تدفعها عن جهل إلى طمس التاريخ ومحو السيرة، وتحويل مقابر المناضلين إلى مقالب للقمامة والحشرات.
فيذكر التاريخ، أنه خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر، ظهر بطلٌ شعبيٌّ بمنطقة المنزلة ودمياط، قلما يجود التاريخ بمثله، يدعي الشيخ "حسن طوبار".. لم تمنعه ثروته الضخمة، أو قصوره الفارهة، أو أسطول الصيد البحري المهول الذي كان يمتلكه، من أن يكون قائدا شعبيا، وشيخ عرب، ومحرضا على أكبر ثورة ضد الحملة الفرنسية في ذلك الوقت.
لدرجة دفعت "ريبو"، أحد أبرز كتاب الحملة الفرنسية، إلى الكتابة عنه في كتابه "تاريخ الحملة الفرنسية في مصر" قائلا: لقد كانت مديرية المنصورة وبحيرة المنزلة أكبر مسرح للاضطرابات في مصر، حيث كان يسكنها قوم أغنياء أشداء ذوو نخوة وجلد وصبر، وكان لهم 40 رئيسا، جميعهم يتبعون "حسن طوبار" شيخ المنزلة والزعيم الأكبر لهذه المنطقة.
كما قال عنه الجنرال "لوجيه" أحد قائدة الحملة الفرنسية في يومياته: "إن طوبار كان ينتمي إلى أسرة عريقة، توارثت مشيخة المنطقة لخمسة أجيال، وكان يمتلك نحو 5 آلاف من مراكب الصيد، وعددًا من مصانع النسيج والمتاجر، ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ورغم ذلك فقد كان" شيخ عرب" محبوبا من كل سكان الإقليم، وجعله حسه الوطني على استعداد لاتخاذ أي قرار يهدد ثروته".
ورغم ذلك لم يقف البطل الشعبي مكتوف الأيدي أمام الغزو الفرنسي لمصر، حيث سخر كل ثروته ورجاله للمقاومة، وجهز من ماله الخاص أسطولا بحريًّا ضخمًا، خاض معارك شرسة مع الفرنسيين في بحيرة المنزلة، مما دفعهم إلى اتخاذ قرار بالتخلص منه، إلا أنهم لم يتمكنوا لمكانته عند قومه.
فأرسل إليه "نابليون بونابرت" محاولا استمالته، بعد أن أدرك أهمية المركز الإقليمي الذي كان يسيطر عليه، وتحكمه في كل الممرات المائية بين البحر المتوسط وبحيرة المنزلة، التي كانت كفيلة بتسهيل مرور السفن العثمانية للدخول إلى مصر، في حال اتفاقه مع السلطان العثماني، فأرسل بالجنرال "فيال" حاكم دمياط إليه، ومعه هدية عبارة عن "سيف من الذهب"، إلا أن "طوبار" سخر منه ورفض مقابلته.
ويحكي المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، أن "حسن طوبار" جمع كل مراكبه في بحيرة المنزلة في سبتمبر عام 1798 بعد أن اتفق مع أهالي دمياط، وسار بأسطول بحري ضخم التقى بمجاهدي دمياط في قرية" غيط"، وانطلقوا إلى مدينة دمياط، حيث دارت بينهم وبين قوات الحملة الفرنسية معركة ضارية، نجحوا خلالها في قتل الحراس الفرنسيين في المواقع الأمامية للمدينة، إلا أنهم اضطروا للتقهقر إلى "قرية الشعراء" لعدم تكافؤ القوى.
إلا أن الفرنسيين تقدموا بعد أيام واستولوا على القرية، مما حدا بـ "طوبار" ورفاقه يشعلون ثورة في كل البلاد الواقعة بين المنصورة ودمياط، وقاموا بمهاجمة كل السفن الفرنسية الناقلة للجنود في النيل، مما جعل "نابليون" يدرك أن "طوبار" ورجاله لن يستسلموا، فأرسل له رسولا يدعوه ورجاله للصلح، إلا أن "طوبار" رفض.
وهو ما جعل " نابليون" يشتاط غضبا، وأمر بتجهيز حملة برية وبحرية ضخمة، تمكنت من دخول المنزلة في 6 أكتوبر 1798، بعد معارك طاحنة مع "طوبار" ورجاله، الذين لم يجدوا أمامهم سوى اللجوء إلى غزة.
ولم يكف "طوبار" عن القتال، ومهاجمة الفرنسيين بقطع بحرية محدودة تنطلق من غزة إلى دمياط بين الحين والآخر، إلا أنه لم يتمكن أمام قوة وضخامة الأسطول الفرنسي من دخول المدينة، وظل هكذا إلى أن داهمه المرض ودمرت كل قواته، فسمح له "نابليون" بالعودة من غزه إلى دمياط ليأمن هجومه وتحريضه للأهالي، مشترطا أن يبقى "نجل طوبار" بحوزته في القاهرة، كما فرض عليه "كليبر" رقابة وحراسة شديدة رغم مرضه، وظل هكذا إلى أن أصيب بأزمة قلبية أودت بحياته عام 1800.
الغريب، أنه رغم التاريخ المشرف لـ "طوبار" إلا أن ضريحه ظل مهملًا، إلى أن زاره الرئيس الراحل "جمال عبدالناصر" في عام 1962، وأصدر قرارًا جمهوريًّا حمل رقم 2300 باعتبار قصر "طوبار" مزارًا أثريًّا، يضم كل متعلقاته، إلا القرار لم ينفذ، وأهمل القصر الذي أبهر الفرنسيين، وهدمت الحديقة المحيطة، وحولته الدولة إلى مجمع مدارس، ومكتبة تابعة لوزارة الثقافة، ولم يتبق من سيرة البطل الشعبي سوى "مقبرة" مهملة، ظلت لسنوات مأوى للقمامة والحشرات.
وظل أحفاد "طوبار" لسنوات يعانون الأمرين من أجل الحصول على موافقات لترميم المقبرة، إلى أن وافق محافظ الدقهلية السابق، على ترميمها والمنطقة المحيطة بها على نفقة "الأحفاد"، وليس على نفقه المحافظة أو وزارة الآثار.
للأسف، معلوماتي تؤكد أن الأحفاد -ولهم جميعا كل التقدير- قد جمعوا نحو 250 ألف جنيه من أموالهم الخاصة، تم إنفاقها على جزء من ترميم المقبرة "وتوقفوا"، وتوقف معهم الحلم بإقامة "متحف" يخلد ذكرى "طوبار" يضم كافة مراسلات "نابليون" و"كليبر"، وصور الرسائل التاريخية من "محمد علي" باشا و"إبراهيم" باشا، وكل صور "حسن طوبار" وملابسه، وما تبقى في مقبرته من "منضدة وسيف مرصع بالأحجار الكريمة، والبندقية الخرطوش التي كان يستخدمها، ومصحف مكتوب بخط اليد، وكتاب لأحد مؤرخي الحملة الفرنسية، يتحدث فيه عن معاركه وبسالته".
للأسف هذه سيرة أحد أبرز قادة مصر الشعبيين على مر التاريخ، وهذا ما آل اليه تراثه ومقبرته وتاريخه.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.