العراق يحتضر
لا أعتقد أن العراق قد يشهد تقدما أو تحسنا على الصعيد السياسي أو الاقتصادي في القريب العاجل، أو أن المواطن العراقى الفقير سيشعر بتحسن ولو طفيف خلال الشهور أو حتى السنوات القادمة، حتى وان نزل العراقيون إلى الشوارع بأضعاف الأعداد التي احتشدت خلال الأيام القليلة الماضية، أو حتى سقط منهم أضعاف من سقطوا في المظاهرات التي طالت كل المدن العراقية، احتجاجا على تردي الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سادت البلاد منذ عام 2003.
للأسف هذه حقيقة وواقع يعلمه كل الساسة والنخب السياسية في العراق، والذين ارتضوا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق تحت نزعة "الطائفية" نظاما سياسيا اشبه بـ "الفتنة" أوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن من "فساد وتخلف وتناحر"، يدفع فاتورته المواطن العراقى الفقير، ولا خلاص منه سوي بوجود إرادة حقيقية لدى الجميع، تنحي الطائفية، وتعمل بصدق لصالح "عراق" موحد يضع الكفاءات والعلماء في الصدارة، ويقصي كثيرا من الفاسدين الذين تصدروا المشهد طوال السنوات الماضية، بحكم نظام "المحاصصة" الكارثي الذي وضعه الأمريكان لتدمير العراق.
وحتى يعي البعض الكارثة التي يعيشها العراق منذ عام 2003، فقد حرص الأمريكان منذ أن وطئت أقدامهم تراب بغداد، على وضع نظام سياسي في البلاد يعزز الفتنه، ويدفع بانصاف المتعلمين والجهلاء والفاسدين إلى الصدارة، وضع أسسه الحاكم الأمريكي للعراق بعد الغزو "بول بريمر" سمي بنظام "المحاصصة".
وذلك بعد أن قام بتشكيل ما يسمى بـ "مجلس الحكم" استبدل به وحدة الشعب العراقى، وهويته العربية الإسلامية، بمفاهيم طائفية وعرقية، تم بموجبها تقسيم سلطات الدولة وتوزيعها على أساس الانتماءات المذهبية والعرقية للأحزاب التي شاركت في العملية السياسية، والتي تكرست فيما بعد في "قانون الدولة" للمرحلة الانتقالية، الذي صدر أيضا تحت سلطة الاحتلال في مايو عام 2003، باعتباره "وثيقة دستورية مؤقتة" ترتب عليه أيضا اقتسام سلطات الدولة على ذات أسس الطائفة والعرق، وليس الأكفأ من العلماء والمثقفين وأصحاب الفكر من كل أبناء الشعب العراقى، بصرف النظر عن الطائفة أو العرق.
وظلت بذرة الطائفية التي زرعها الأمريكان تترعرع وتنمو وتضرب بجذورها في بلد الرشيد، برعايتهم ومباركة الطوائف، إلى أن تحولت إلى شجرة ضخمة وصلبة يصعب حتى تقليم فروعها، وهو ما أدى بالتبعية إلى انتشار رقعة الفساد المالى والإدارى، الذي وصل إلى حد المتاجرة بالوظائف والمواقع القيادية في الدولة، وخلف بالتبعية جهاز حكومى "هش" أقصى الآلاف من العلماء والكفاءات العلمية المؤهلة، بحكم انعدام تكافؤ الفرص، وتفشى الدعوات العنصرية والطائفية التي هددت كيان الدولة.
وتحولت الدولة بعد سنوات من الغزو الأمريكي إلى "شبه دولة" ينخر الفساد في كل أجهزتها، بعد أن ضعفت سلطة "الحكومة المركزية" وأصبح الكلمة الأولى والأخيرة فيها لكيانات طائفية تمتلك مالا وسلاحا وسطوة، وأصبح "الاغتيال" المصير الحتمي كل من يتجرأ على معارضة الفساد السائد.
وتبدل حال الدولة التي كانت تأكل من خيراتها طوال سنوات الحصار في التسعينات، إلى بلد مستورد حتى لـ"البسكوت والجبن والزبادي" بعد أن تم تدمير الزراعة والصناعة، ووصل حجم التردي إلى كل القطاعات الخدمية من مياه وكهرباء، لدرجة أن البلد الثاني في إنتاج البترول في العالم، أصبح يستورد البترول لسد حاجة البلاد من الطاقة.
للأسف، هذا هو حال العراق، الذي يؤكد الواقع أنه منذ الغزو الأمريكي لا يحكمة العراقيون، ولكن تحكمه قوى ودول خارجية هي من تدعم وتوجه وتتحكم في صناعة القرار، في ظل تردي على كل المستويات بحكم سيطرة النعرات الطائفية.
أؤكد أن العراق لن تعود إلى العراقيين، ولن يشعر المواطن العراقى الفقير بتحسن في أوضاعه المعيشية، سوي بوجود إرادة حقيقية من النخب وقادة الطائف، يتم معها تنحية الطائفيه، ووضع الصالح العام للبلاد في الصدارة، والبدء على الفور في وضع "دستور" وطني لا مكان فيه للمحاصصة والطائفية، ولكن يدفع بالكفاءات والنوابغ إلى الصدارة، لإعادة الحياة إلى جسد الدولة، الذي وهن من قسوة "الحصار والحروب والفساد" الذي ينهش فيه منذ أكثر من 30 عاما.