البُردة وأخواتُها.. 800 عام في مدح خير الأنام.. «البوصيري» الأستاذ الأعظم.. و«شوقي» سار على دربها.. شاعر مسيحي ينظم «أنوار هادي الورى».. وباحثون يكشفون عظمة المديح النبوي
في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم كل عام، تقفز إلى الأذهان، قصيدة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، المعروفة تاريخيًا بـ"البُردة"، التي نظمها الإمام "محمد بن سعيد البوصيري"، في القرن السابع الهجرى، والتي يُضرب بها المثل، حتى صارت نموذجًا يحتذى به الناظمون في مدح خير الأنام، وقيَّضَ اللهُ عز وجل لها مَن ينشدها جيلًا بعد جيل.
ولعل أشهر من تغنوا بها "عبد العظيم العطوانى"، الذي غيبه الموت قبل 3 سنوات، و"أحمد المنصور"، الذي انقطعت سيره بعد إنشاد "البردة"، وكلاهما جمع قوة الصوت وحلاوته وحسن الأداء وروعته، كما أن الشيخ محمد متولى الشعراوي تأثر كثيرًا بأداء "العطوانى"، وأثنى عليه ثناءً عظيمًا. وسار على الدرب "عايدة الأيوبى"، وكثير من فرق الإنشاد في معظم الأقطار العربية والإسلامية اتخذوها بضاعة يتكسبون من ورائها، بما احتوته من إحساس صادق وإخلاص لا حدود له.
كما عارض "البردة" الشعراء جيلًا وراء جيل، مثل: "الماوردى" في كتابه "كشف الغُمَّة في مدح سيد الأمة" وأمير الشعراء أحمد شوقى في تحفته الرائعة "نهج البردة" التي شدتْ بها كوكب الشرق "أم كلثوم"، أما المفاجأة التي يغفل عنها الغافلون فكانت في صنيع الشاعر المسيحى "ميخائيل خير الله ويردى" الذي نظم "أنوار هادي الورى"، وغيرهم كثيرون.
أفضل قصائد المدح
باحثون ومؤرخون يجمعون على أن "البردة" من أفضل وأعجب قصائد المديح النبوي إنْ لم تكن أفضلها على الإطلاق، وقد تُرجمت إلى عدة لغات أجنبية، لما تحظى به من مكانة روحية وفكرية كبيرة، جعلتها أيقونة المديح النبوي، منذ أن خطها الإمام البوصيري، في القرن السابع الهجري.
الدكتور "زكي مبارك" –رحمه الله- يصف القصيدة وناظمها قائلًا: "البوصيري، بهذه البُردة، هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثرٌ في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق؛ فعن البُردة تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البردة تلقَّوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول».
ويصف أحدُهم تأثير "البردة" في المتصوفة قائلًا: "هامَ في البردة أهلُ التصوف؛ فشَرحوها، وشَطَّروهــا، وخمَّسوهـا، وسَبَّعوها، وعارَضوها، ونَظَموا على نهجها، حتى بلغتْ شروحُها والكتُب التي تَكلَّمت عنها العَشَرات، ولم تَقتصرْ على اللُّغة العربيَّة، بل جاءتْ بلُغاتٍ مختلفة".
يقول الإمام ”السيوطي“ عن قصيدة البردة: "كان البوصيري، رحمه الله تعالى من عجائب الله في النظم النثرية وإنْ لم يكن له إلا قصيدته المشهورة بالبردة، تكفيه فخرًا".
تفاصيل البردة
تقع البردة في 167 بيتًا وتتناول 10 موضوعات منها: في مدح سيد المرسلين، في مولــده، في معجزاته، في شـرف القرآن ومدحه، في جهاد النبي، في التوسل بالنبي، في المناجاة وعرض الحاجات، ومن أشهر أبياتها التي يتداولها العامة والخاصة:
مولاي صلِّ وسلـم دائمًا أبـدًا.. علـــى حبيبـك خيــر الخلق كلهـم
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلــى.. أن اشتكت قدماه الضر من ورم
ويظل "البوصيرى" يعدد مناقب الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله حتى يصل إلى النهاية قائلًا:
وهذه بردة المختار قد خُتمتْ.. والحمد لله في بدء وفي ختم
يا رَبِّ بالمصطفى بلغ مقاصدنا.. واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم.
تُوفِّي البوصيري بالإسكندرية عن عمر بلغ 87 عامًا ودفن بمسجده على شاطئ البحر بحي الأنفوشي في منطقة ميدان المساجد، وفي مواجهة مسجد أبي العباس المرسي، وتحول ضريحه إلى مزار للمحبين من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
أمير الشعراء و"نهج البردة"
أمير الشعراء "أحمد شوقي" الذي عاش بين عامي 1868 – 1932، من أبرز الشعراء الذي عارضوا بردة "البوصيري"، فنظم "نهج البردة"، التي وإن سارتْ على نهج القصيدة الأشهر في مدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا أنها شكّلت قيمة مضافة جديدة، بما احتوته على معان وتعبيرات ومفردات جادت بها قريحة "شوقي" الذي لم يبدُ صادقًا صدقه في "نهج البردة" التي تغنت بها لاحقًا "أم كلثوم"، وخلّدتها بصوتها الشجى، وإحساسها الذي لم يقل صدقًا عن إحساس شاعرها، ولا يفوت "شوقي" الإقرار بفضل ناظم "البُردة"، باعتباره صاحب السبق فمدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث يخاطب الأخير قائلًا:
المادحون وأرباب الهوى تبع.. لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
مديحه فيك حب خالص وهوى.. وصادقُ الحب يملي صادق الكلم.
تقع قصيدة "نهج البردة" في 191 بيتًا، وبدأها "شوقي" على غرار "البوصيري"، وخلال 24 بيتًا بالنسيب، مُرددًا:
ريم على القاع بين البان والعلم.. أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرم.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى القسم الثاني من القصيدة، حيث يتحدث عن الدنيا والمتكالبين عليها، والغافلين عن تقوى الله، فيقول:
يا نفس دنياك كل مبكية.. وإن بدا لك منها حسن مبتسم، حتى يصل إلى قوله: لزمتُ باب أمير الأنبياء ومن.. يُمسك بمفتاح باب الله يغتنم.
أما القسم الثالث والأخير، والذي يستغرق 148 بيتًا فيخصصه "أمير الشعراء" للغرض الرئيس لقصيدته وهو مدح النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وفيها يستعرض قدراته الفذة وشاعريته الفائقة وقريحته المُتقدة في وصف أخلاق وشمائل وفضائل وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسخر ممن أنكروا دعوته قائلًا:
يا جاهلين على الهادي ودعوته.. هل تجهلون مكان الصادق العلم
لقبتموه أمين القوم في صغر.. وما الأمين على قول بمُتهمٍ.
وفي أبيات تشعُّ جمالًا وبراعة، تطرق أمير الشعراء إلى معجزة "الإسراء والمعراج" مرددًا:
أسرى بك الله ليلًا إذ ملائكه.. والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لمّا خطرت به التفّوا بسيّدهم.. كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم.
ويمضي "شوقي" إلى أن يختم قصيدته بالدعاء للمسلمين أن يقبل الله عز وجل عثرتهم وأن يعود بهم إلى سالف مجدهم وعزتهم فيقول:
يا رب هبْ شعوب من منيتها.. واستيقظت أمم من رقدة العدم، حتى يصل إلى قوله: يا رب أحسنت بدء المسلمين به.. فتمِّم الفضل وامنح حُسن مُختتمِ
وفى عام 1946، وبعد رحيل "شوقي" بـ14 عامًا، شدت "أم كلثوم" قصيدة "نهج البردة" بألحان "رياض السنباطى"، لتكون واحدة من أفضل أغانيها، إنْ لم تكن الأفضل على الإطلاق.
"ميخائيل".. على درب "البوصيري" وشوقي"!
من عجبٍ أن شاعرًا مسيحيًا ينضمُّ إلى زمرة مداحي النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث عارض قصيدة "نهج البردة"، وصاغ أبياتًا تشعُّ صدقًا وإخلاصًا ويقينًا، أما الشاعر المسيحي فهو السورى "ميخائيل خير الله ويردي"، الذي عاش بين عامى 1904 – 1951، وأما القصيدة العصماء فهى "أنوار هادي الورى"، التي تقع في 124 بيتًا من "البحر البسيط"، وحظيت بجماليات فائقة، بحسب وصف الأديب "محمد القوصى" في كتابه "نهج البردة للشاعر المسيحي ميخائيل ويردي"، الذي وصفه بأنه أول مسيحي ينظم قصيدةً في "نهج البُردة"، فاتحًا الباب من بعده على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين، ليسيروا على دربه وخطاه".
وبنظرة سريعة إلى قصيدة "ميخائيل ويردي" نجد الشاعر التزم نهج المعارضات في المدائح النبوية الشهيرة، ففعل مثلما فعل أسلافه من شعراء المدائح النبوية، فنسج على منوالهم.
فنراه يذكر موضع "جيران بذي سلَم"، وما له من دلالة رمزية تاريخية، فاستهلّها بقوله: "أنوارُ هادي الورى في كعبةِ الحرمِ.. فاضتْ على ذِكرِ جيرانٍ بذي سَلَم".ٍ ثمّ ذمّ الدنيا وزخارفها وفتنتها، على غرار "شوقي"، فعاتب النفس على تقصيرها ولام نوحها إلى الهوى، ثم دعاها للعودة إلى رشادها وهدايتها قائلًا:
يا ليتَ أحلامَ عمري لم تضع بددا.. بحُبِ قصرٍ من الأوهام منهدِم
فاربأْ بنفسـكَ أن تنهار من ألـمٍ.. واربأْ بحُسْنِكَ أن يربدّ من سأَمِ
ثم يعرض الشاعر ما لاقاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، من معاداة قومه له، عندما دعاهم إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، فتحمّل الصبر طويلًا حتى أتمّ الدين وأكمل شرائعه:
وحَّدْتَ ربكَ لمْ تُشرِك بهِ أحـدًا.. ولستَ تسـجدُ بالإغراءِ للصنم
عاديتَ أهلكَ في تحطيم بدعتهم.. من ينصر اللهَ بالأصنام يصطدِم.
وفى موضع آخر.. يُثمنُ "ميخائيل" إنسانيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات، فيخاطبه:
وفى موضع آخر.. يُثمنُ "ميخائيل" إنسانيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات، فيخاطبه:
ترعى اليتيمَ وترعى كلَّ أرملةٍ.. رعيَ الأبِ المُشْفِقِ الباكي من اليَتَمِ. مُبديًا إعجابه الشديد بمنهج الرسول الدعوي القائم على المجادلة بالتي هي أحسن، فقال:
أحببتُ دينكَ لما قلتَ أكرمكم.. أتقاكـمُ وتركتَ الحُكـمَ للحَكَـمِ
وقلتَ إني هُدىً للعالمين ولمْ.. تلجأ إلى العُنفِ بل أقنعتَ بالكلِمِ.
كما فطِن الشّاعر المسيحي إلى سر نجاح الدعوة المُحمّدية، بقوله: خاطَبتَ كُلَّ ذكيٍّ حَسبَ قُدرَتِهِ.. وَلَـم تَكُن بِغبيٍّ القَومِ بالبَرِمِ.
ولم ينسَ "ميخائيل" ما أسداه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة من احتفاء وتكريم، سبق بهما حضارات الشرق والغرب، فيقول:
عَزَّزتَ كُلَّ فَتاةٍ حِينَ صِحتَ بِنا.. ما أَولَد العِزُّ غَيرَ السّادَةِ الحُشُمِ
فَأَنتَ أَوَّلُ مَـن نـادى بِمأثَرَةٍ.. يَظُنُّها الغَربُ من آلاءِ بَعضِهمِ.
ويتجلى إخلاص الشاعر المسيحى، عندما يطلب الشفاعة من "الرسول" في الآخرة، قائلًا:
فاجعلْ هواكَ رسولَ الله تلقَ بهِ.. يوم الحسابِ شفيعًا فائقَ الكَرَمِ.
ومثلما ختم المادحون قصائدهم بالصلوات المباركات على خاتم الأنبياء، اختتم "ميخائيل ويردي" قصيدته بالصلاة والتسليم على النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، مرددًا:
ومثلما ختم المادحون قصائدهم بالصلوات المباركات على خاتم الأنبياء، اختتم "ميخائيل ويردي" قصيدته بالصلاة والتسليم على النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، مرددًا:
صلّى الإلهُ على ذِكْراكَ مُمتدِحًا.. حتى تؤمّ صلاةَ البعثِ بالأُمَمِ.
فتلك هي "البردة" التي أسستْ للونٍ فريدٍ وبديعٍ واستثنائىٍّ في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتلك بعضُ أخواتها، التي حذت حذوها، وسارت على دربها، فكتب الله تعالى الخلود لها ولأصحابها.
فتلك هي "البردة" التي أسستْ للونٍ فريدٍ وبديعٍ واستثنائىٍّ في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتلك بعضُ أخواتها، التي حذت حذوها، وسارت على دربها، فكتب الله تعالى الخلود لها ولأصحابها.