رسالة من القلب
اعتدت أن أكتب في نهاية كل أسبوع ولكن هذه المرة كان الدافع للكتابة أقوى أمام التزام بتوقيت أو انتظار لنهاية الأسبوع!، حيث قرأت كلمات لبعض الشباب تحمل في طياتها غضب كبير بسبب ضيق من الحال، وعدم توافر وسائل الحياة الكريمة في مصر، ويتمنى الهجرة للخارج، وبعضهم كتب تمنيات غير طيبة للوطن بل والأكثر أن بعضهم أرسل لي كي أساعده على الهجرة، مبررا أن الأطباء والمهندسين في مصر يعملون سائقين في "أوبر" و"كريم"، وإن وجد عملا فالعائد المادي محدود!
ومن قلبي وبكل صراحة ودون أي تجميل أحاسب عليه أمام الله عز وجل يوم الحق، أرسل لهؤلاء الشباب مجموعة رسائل هامة عن خبرة وتجربة حقيقية، وأن اختلفت الظروف والدوافع خلف وجودي خارج وطني:
١- لن تشعر في حياتك بقيمة الوطن ودفئه وأمنه وأمانه إلا إذا تعرضت لأزمة خارج وطنك مهما اختلف نوعها، صحية، مادية، اجتماعية، نفسية، قانونية؛ فكما أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يعلمها إلا المرضى، فإن الوطن تاج على رءوس المواطنين المخلصين لا يشعر به إلا من تعرض لأزمة صغيرة أو كبيرة خارج وطنه!
٢- إذا كنت تعتقد أنك ستجد في الخارج الملاذ المادي الذي تسعى إليه فاعلم أنك حالم، فالطريق إلى الملاذ المادي إن لم تكن تملك المال صعب ومرهق جدا ومليء بـ"أوبر" و"كريم"، وما هو أبشع، ستجده في أي بلد تتخيلها حتى إذا كنت تحمل دكتوراه، فالعالم الآن أصبح مليئا بالمؤهلين وحملة الدكتوراة والقلة المميزة لا يمكن أن تثبت تميزها إلا إذا أتيحت لها الفرصة، والفرصة لم ولن تتاح لهم إلا إذا كنت مميزا عن جد وعمل واجتهاد حقيقي..
وإن لم تجد الفرصة في بلدك فاعلم أن عليك جزءا من المسئولية، فمثلا الوساطة والمحسوبية نسبتها محدودة في تحديد أوائل الدفعات في كل الجامعات، ومعظم الكليات، ولا انفي وجودها، ولذلك نجد أن معظم المعيدين من غير أبناء أعضاء هيئة التدريس، وأنا كنت أحدهم، ولَم أجد من تحدث عن الظلم والوساطة والمحسوبية في هذا السياق سوي غير المميزين مثيري الفتن بعد الإخفاق وعدم نيل المراد..
فلماذا إذا تقبل "أوبر" و"كريم" وبشكل غير قانوني خارج وطنك وأنت دكتور أو مهندس بل تسعى له في أحيان كثيرة، في حين أنك تراه سبة وعار حتى لو كان قانوني داخل وطنك، مع العلم أنك إذا وقعت تحت طائلة القانون في بلد الملاذ ستتمنى أن تعود إلى وطنك لتقف بعربة بطاطا في أي شارع في عز الشتاء!
٣- إذا كنت تعتقد أنك ستجد في الخارج الملاذ العلمي الفريد بإمكانياته والمميز بكوادره العالمية الذي تتمناه فهذه حقيقة في الوضع الحالي للتعليم في مصر، وقد اعترف به الرئيس شخصيا في محفل دولي، ولكنه ملاذ فاتورته باهظة جدا، فإذا كنت تتحدث عن التعليم الجامعي فلا يوجد تعليم جامعي مجاني مثل الموجود في وطنك، على الرغم أن لدينا جامعات مصنفة عالميا وفي ترتيب متقدم مثل جامعة القاهرة العريقة..
فإن أردت أن تصبح مهندسا مثلا فعليك دفع مصروفات قد تصل إلى مليون جنيه سنويا شاملة المعيشة والإقامة ونفقات التأمين الصحي، أي ٤ ملايين جنيه لكي تكون مهندسا لأن دراسة الهندسة ٤ سنوات، أما إذا أرادت أن تكون طبيبا فهذه قصة أخرى لأن دراسة الطب بأنواعه بشري، بيطري، أسنان، صيدلة يتطلب الحصول على درجة جامعية أولى ٤ سنوات في العلوم ثم ٤ سنوات للطب أي ٨ سنوات أي بتكلفة نحو ٨ ملايين جنيه..
الكلام ده حقيقي وغير مبالغ فيه، ولا تحدثني عن المنح لأنها تحتاج أن تكون شخصا مميزا جدا لكي تحصل على المنحة، وإذا حصلت على منحة الدراسة فمن سيوفر لك منحة المعيشة والسكن والتي تصل إلى ٢٥٠ ألف جنيه في السنة على أدنى تقدير، خصوصا أن الطالب الأجنبي لا يسمح له بالعمل، وإذا اضطر للعمل بطريقة غير قانونية فالسجن سيكون مصيره، وبعده الترحيل بدون مستقبل..
وهو المصير إذا اكتشفت الجهات المختصة أمره، ومن مبدأ مالا يدرك كله لا يترك كله، فجميع الدول تعترف بالشهادات والجامعات المصرية بدليل أن خريج الهندسة والطب في مصر يستطيع أن يدرس الماجستير والدكتوراه خارجها، والمعادلة المطلوبة للشهادات الطبية للاخوة عديمي العلم أصحاب الفتاوى الجاهلة تعني الاعتراف بالشهادة، وليس العكس، بل هي معادلة ساعات ومقررات الدراسة لتعادل الدرجات الممنوحة في البلد الأجنبي، وعليه كل خريج مصري من جامعة مصرية مدين لمصر بملايين الجنيهات ولا تستحق منه أن يسبها ويلعنها..
وإذا أتيحت لك الظروف لأن تكمل دراستك العليا خارجها فعليك أن تعود لها لترد ما عليك لأجيال جديدة تعمر وطنك!
٤- إذا كنت تعتقد أنك ستجد في الخارج الملاذ الاجتماعي فأنت واهم واهم واهم، حتى لو كنت تملك المال، فالرفاهية التي يعيش فيها متوسطو الحالة الاقتصادية في مصر يفتقدها الطبقة الغنية إذا انتقلت للحياة خارج مصر، فلن تستطيع أن تدفع راتب سائق خاص لسيارة فارهة ألمانية الصنع، أو حارس لمنزلك في الحي الراقي، أو شخص يحمل عنك حقيبتك إلى سيارتك، أو حتى مشترياتك من السوبر ماركت، بل في محطة البنزين لا بد أن تضع الوقود بنفسك، وتغسل سيارتك بنفسك..
ورفاهيتك الاجتماعية تكمن في قدرتك على سد هذه الاحتياجات دون الحاجة إلى كارت ائتمان البنك، وفِي عملك لن تجد المكتب الفسيح والفخامة المصرية المعهودة لأصحاب المال والأعمال، بل ستجد مكتبك مساحة محدودة في مكتب صغير يتسع لأكثر من ٣ أشخاص على الأقل إلى أن تصبح مسئولا، ويصبح لديك مكتب شخصي ولكن مساحته لا تتعدى ما يتسع للمكتب وترابيزة مستديرة و٢ كرسي، ولا يوجد الساعي الذي يقدم لك الشاى أو الهوة إلى مكتبك بل ستجد ماكينة القهوة وأقوم اعمل لنفسك!
٥- إذا كنت تعتقد أنك ستجد في الخارج الملاذ الديمقراطي المأمول فأنت عن الواقع مشغول، فالقواعد تحتم عدم التحدث في السياسة أو الدين أو الجنس في العمل وأماكن الدراسة والأماكن العامة، ويمارس مواطني هذه الدول حقه في التعبير عن رأيه في إطار الدستور والقانون ومن خلال الوسائل المشروعة، أما غير المواطن (الغريب) فليس من حقه ذلك، وعليه أن يركز فقط في مهمته التي اتي من اجلها وان لم يفعل يصبح سجين سجن من سجون ملاذه المزعوم بلا سند أو مدد!
ومن قلبي أنهى الرسالة الطويلة بخلاصة وهي إذا كانت شهوتك لترك الوطن بنية البحث عن الملاذ، فأنت واهم، أما إذا كانت نيتك للعلم عاقدا النية على العودة بعد انتهاء المهمة فاعقلها وتوكل، وان لم يتوافر لك الغطاء المالي المناسب فلا تتحرك من وطنك، وإذا كنت مبتعثا من الوطن وسعيت ألا تعود فأنت حرامي أو نصاب أو كلاهما، أما إذا كنت على نفقتك الخاصة وأردت ألا تعود فهذا شأنك، ولكنك مدين لوطنك وعليك رد الدين للوطن الذي تعلمت فيه وتخرجت من جامعاته دون صفصطة وإلا أصبحت جاحدا حاقدا لا تستحق هذا الوطن!
حفظ الله مصر وشبابها ومستقبلها من كل مكروه وسوء.