"ميخائيل".. يمدحُ "مُحمَّدًا" (1)
إنْ يمدحْ المسلمون نبيَّهم الكريم، نثرًا وشعرًا، فلا عجبَ في ذلك، ولكن عندما يكونُ المادحون شعراءً مسيحيين، ومُفكرين غربيين، ومُنشدين أقباطًا، فإنَّ الأمرَ يتطلبُ اهتمامًا، ويستدعى تقديرًا.
من بين تلك المدائح النبوية المُهمة، التي لم تنلْ ما تستحقُه من شُهرة، قصيدةُ "أنوار هادى الورى"، التي نظمها الشاعرُ السورىُّ المسيحىُّ "ميخائيل خير الله ويردى"، الذي عاش بين عامى 1901-1951، وعارضَ بها "نهج البُردة" لأمير الشعراء "أحمد شوقى".
بلغَ عددُ أبيات قصيدة "أنوار هادى الورى" 124 بيتًا من بحر "البسيط"، وحفلتْ بـ"جمالياتٍ فائقةٍ"، وعكستْ في جميع مفرداتها صدق الشاعر وإخلاصه في "حب النبىِّ".
أنوارُ هادي الورى في كعبةِ الحرمِ، فاضتْ على ذِكرِ جيرانٍ بذي سَلَمٍ.. هكذا يستهلُّ "ميخائيل" قصيدته، مُبتعدًا عن البدايات التقليدية التي تقومُ على الغزل والنسيب.
وفى موضع ثانٍ.. يذمُّ الشاعرُ المسيحىُّ الدنيا ويقلِّلُ من شأنها قائلًا: يا ليتَ أحلامَ عمري لم تضعْ بددًا، بحُبِ قصرٍ من الأوهام مُنهدِم، فاربأْ بنفسـكَ أنْ تنهارَ من ألـمِ، واربأْ بحُسْنِكَ أن يربدَّ من سأَمِ.
وفى موضع ثالثٍ.. يستعرضُ "ميخائيل خير الله" الآلامَ والمصاعبَ التي تعرَّضَ لها نبىُّ الإسلام في سبيل إبلاغ رسالته قائلًا: وحَّدْتَ ربّكَ لمْ تُشرِك بهِ أحـدًا، ولستَ تسـجدُ بالإغراءِ للصنم، عاديتَ أهلكَ في تحطيمِ بدعتهم، منْ ينصرْ اللهَ بالأصنام يصطدِم.
وفى موضعٍ رابعٍ.. يركِّزُ الشاعرُ المسيحىُّ على إنسانية الرسول الكريم وأخلاقياته الرفيعة ومعاملاته الراقية ورحمته التي شملَ بها الجميعَ قائلًا: ترعى اليتيمَ وترعى كلَّ أرملةٍ، رعيَ الأبِ المُشْفِقِ الباكي من اليَتَمِ. كأنّما قلبهُ ينبوعُ مرحَمـةٍ، مستبشِـرٌ جذلانُ بالنَسـَمِ.
وَكُنتَ أَرأفَ بالمسكينِ مِن دُوَلٍ، رَأت بِأَمثالِهِ سِرْبًَا مِن الغَنَمِ. في دينكَ السمحِ لا جنسٌ ولا وطنٌ، فكل فردٍ أخٌ يشدو على عَلَم.
وفى موضع خامسٍ.. يُثمِّنُ "ميخائيل خير الله" المنهجَ الدعوىَّ لرسول الإسلام قائلًا: أحببتُ دينكَ لما قلتَ: أكرمُكم أتقاكـمُ وتركتَ الحُكـمَ للحَكَـمِ، وقلتَ: إني هُدىً للعالمين ولمْ تلجأ إلى العُنفِ بل أقنعتَ بالكلِمِ.
وفى موضعٍ سادسٍ.. يُلمِّحُ الشاعرُ المسيحىُّ إلى السر في نجاح الدعوة المُحمدية وانتشارها وبلوغها العالمية قائلًا: خاطَبتَ كُلَّ ذكيٍّ حَسبَ قُدرَتِهِ، وَلَـم تَكُن بِغبيٍّ القَومِ بالبَرِمِ.
وفى موضعٍ سابعٍ.. يمتدحُ "ميخائيل خير الله" إنصافَ الرسول الكريم للمرأة.. قائلًا: عَزَّزتَ كُلَّ فَتاةٍ حِينَ صِحتَ بِنا، ما أَولَد العِزُّ غَيرَ السّادَةِ الحُشُمِ، فَأَنتَ أَوَّلُ مَـن نـادى بِمأثَرَةٍ، يَظُنُّها الغَربُ من آلاءِ بَعضِهمِ.
في موضعٍ ثامنٍ.. يتوسَّلُ الشاعرُ المسيحىُّ شفاعة نبىِّ الإسلام، على غرار من سبقوه في نظم المدائح النبوية قائلًا: فاجعلْ هواكَ رسولَ الله تلقَ بهِ، يومَ الحسابِ شفيعًا فائقَ الكَرَمِ.
ويختتمُ "ميخائيل خير الله ويردى" قصيدته " أنوار هادى الورى" بالصلاة على الرسول الكريم قائلًا: صلّى الإلهُ على ذِكْراكَ مُمتدِحًا، حتى تؤمَّ صلاةَ البعثِ بالأُمَمِ.
وبحسبِ الأديبِ "محمد عبد الشافى القوصى".. فإنَّ "ميخائيل" يُعَدُّ أولَ مسيحيٍّ ينظمُ قصيدةً في "نهج البُردة"، فاتحًا الباب من بعده على مصراعيه أمامَ شعراء مسيحيين آخرين، ليحذوا حذوه، ويسلكوا مسلكه، ويسيروا على دربه وخُطاه..
أما "نهجُ البردة" التي نظمها "أحمد شوقى"، الذي عاش بين عامى 1868 -1932، فهى – بلا شكٍّ- من أروع قصائد "أمير الشعراء"، وكتبها على نهج قصيدة البردة" للإمام "البوصيري"، رحمَه اللهُ، وتضمنتْ 190 بيتًا، واتسمتْ أبياتُها بسهولة ألفاظِها وتعبيراتها، وتكادُ تكونُ الأطولَ بين قصائد "شوقى" على الإطلاق.
أمَّا المرجعُ الأساسىُّ لقصيدة "شوقى" وقصيدة "ميخائيل ويردى"، فهو قصيدة "الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة" الذي نظمها "محمد بن سعيد البوصيرى" في القرن السابع الهجرى، وأجمع الباحثون على أنها أفضلُ وأعجبُ قصائد المديح النبوي، كما وُصفتْ بأنها أشهرُ قصيدةِ مدحٍ في الشعر العربيِّ بين العامة والخاصة.
وقال الدكتور "زكي مبارك" عن ناظمها: "البوصيري بهذه البُردة هو الأستاذُ الأعظمُ لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثرٌ في تعليمهم الأدبَ والتاريخَ والأخلاقَ، وعن "البُردة" تلّقى الناسُ طوائفَ من الألفاظ والتعابير غُنيتْ بها لغة التخاطب، وعن البُردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وتلقَّوا أبلغَ درسٍ في كرم الشمائل والخِلال.
وليسَ من القليل أن تنفذ هذه القصيدةُ بسحرها الأخَّاذِ إلى مُختلفِ الأقطار الإسلامية".. رحمَ اللهُ "البوصيرى" و"شوقى" و"ميخائيل"، ومن ساروا على نهجهم في مدح خير البرية وخاتم المُرسلين.