محمود عبد الدايم يكتب: «ترميم الذاكرة».. سيرة وطن تراه من خلف زجاج المطار
«كنت عائدًا من عمان، عاصمة الأردن في طريقى إلى دبي، كانت الرحلة عبر البحرين، كان لا بد من وقفة في مطار الوطن، الوقت كان نهارًا، وكان الفصل صيفًا والشمس ساطعة، ولأن فترة التوقف تستغرق ساعات، فقد رحت أتجول في أرجاء المطار. من خلف الزجاج بدت أشجار النخيل الباسقة في محيطه، على بعد مرمى النظر، أحسستُ في تلك الأشجار بشيء من طفولتى، من صباى، لأنها ذكرتني بواحة النخيل التي كانت تجاور البيت إللى وعيت فيه على الدنيا وقضيت سنوات الطفولة والصبا.. الوطن من وراء الزجاج».
هل جربت أن ترى وطنك من خلف زجاج المطار؟.. هل خضعت يومًا لتجربة إبعادك عن وطنك لسنوات تزيد على الـ 26 عامًا؟.. كيف سيكون الحال طوال سنوات البُعد عن الوطن؟.. هل ستكون العودة بعد هذه السنوات ممتلئة بالحنين أم ستكون مرارة الفقد والإبعاد حاضرة في المشهد وبقوة؟
الأسئلة السابقة وغيرها الكثير والكثير ستحلق في فضاء الذاكرة فور أن تطالع الصفحة الأولى لكتاب «ترميم الذاكرة.. ما يُشبه سيرة» للكاتب البحريني الدكتور حسن مدن، الذي اختار أن يبدأ الكتاب ببيت شعر للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، محاولًا تلخيص ما سيأتي «أتعبتني يا دورة المفتاح في الباب الذي ما خلفه أحد»، ويكمل بمقولة ثانية للكاتب والروائي الإنجليزي جراهام جرين يقول فيها «إذا أدركك الحنين إلى مكان، فلا تعد إليه أبدًا»، لينهى الصفحة الأولى بمقولة للروائى الأشهر ميلان كونديرا، جاء فيها «نحن نعيش غارقين في النسيان إلى أعلى رؤوسنا، ولا نريد أن نعرف ذلك، وحدن من يعودون، مثلما عاد عوليس إلى مسقط رأسه إيثاكا، يستطيعون أن يروا - مذهولين ومبهورين - إلهة الجهل».
الانتقال إلى الصفحة الثانية في الكتاب الأخير لـ«مدن» سيجعلك تدرك معنى «المنافى»، ستجد مرارة الإبعاد عن الوطن حاضرة في فمك.. في قلبك.. في روحك.. فـ«مدن» الذي اختار في كتابه هذا أن يحدثنا عن سنوات «الإبعاد والإقصاء والترحال»، هل كان يدري أنه سيوجعنا إلى هذا الحد؟.. هل كان يعى أنه سيفتح جرحا تلو الآخر؟.. هل كان يعرف، أو يقصد، أن يمنحنا هذه الجرعة المركزة من الصدمة والقسوة والمرارة والحنين أيضا؟.. قطعًا لا.. لكنه الوطن، والسنوات الطويلة التي قضاها متنقلًا بين عواصم العرب والغرب، الليالى الباردة في موسكو، والأيام المرتجفة في بيروت، والساعات الهادئة – إلا قليلًا - في القاهرة وشقيقتها دمشق.. كل هذا وغيره الكثير جعله يروى لنا ذكريات «سنوات الترحال» وأيام الخروج الكبير التي امتدت إلى 26 عامًا.
«مدن» في «ترميم الذاكرة» لا يكتب بحثًا عن قارئ جديد، أو إشادة يستحقها هو بالأساس، لا يكتب لمجرد أن يضع اسمه على مؤلف جديد إلى جوار المؤلفات التي يزينها اسمه، فالقراءة في «ترميم الذاكرة» تكشف – بما لا يدع مجالًا للشك- أن الأحرف.. الكلمات.. الجمل.. المواقف.. كل ما هو بين دفتي الكتاب، محاولة لتدفئة الروح التي ظلت تعانى سنوات وسنوات من «صقيع الغربة».. قفزة مُدهشة في مياه الوطن يغمر فيها روحه ويغوص في أعماق أعماق البحرين.. لعله يجد السكينة التي فارقته طوال سنوات «الترحال».
مواقف عدة ستُدهشك بينما يرويها «مدن»، سواء الأيام التي سبقت خروجه، أو إخراجه إن شئنا الدقة، من «البحرين»، أو تلك التي اصطحبه فيها الجندى المصرى ليبلغه بأنه «يجب أن يخرج من القاهرة»، أو اللحظة التي اختار فيها القدر أن يمنحه فرصة جديدة للحياة، بعدما قرر ألا يذهب إلى «المطبعة» البيروتية، ويقرر المرور أولًا على مكتب البريد، ليعود بعد دقائق ويجد العمارة التي كانت تضم إلى جانب المطبعة عددا من المكاتب الإدارية لمنظمات فلسطينية، مجرد أنقاض، وكل من كانوا فيها صعدت أرواحهم إلى السماء.. إنها الفرصة الأولى لـ«حياة ثانية».
ورغم أن «مدن» أو ما يرويه في «ترميم الذاكرة»، سيجعلك طوال ساعات القراءة متأرجحًا بين الدهشة والرغبة والوحشة أيضا، إلا أن المشهد الأكثر إثارة للشجن، يتمثل في اللحظة التي ظل «مدن» ينتظر عامًا تلو الآخر.. لحظة «السماح بالعودة»، والتي يقول عنها «منذ سنوات بدأت الأمور في البحرين تتغير، كانت ثمة مؤشرات جدية على أن انفراجًا سياسيًا واسعًا قادم. في أعياد سابقة أصدر أمير البلاد (جلالة الملك حاليًا) عفوًا عن عدد من السجناء والمعتقلين السياسيين، وعن بعض المنفيين والمبعدين. كنتُ على ما يشبه اليقين أن اسمى سيرد قريبًا ضمن إحدى قوائم العفو القادمة، خاصة وأن الدولة قد أعلنت عن أن ميثاقًا وطنيًا شاملًا سيطرح للاستفتاء الشعبى».
ويكمل «في مساء اليوم نفسه أُخبرنا بالأسماء التي تضمنتها القائمة. كان اسمى بينها. لا أستطيع أن أصف شعورى حينها. لا أزعم أننى طرتُ من الفرح، وأن الدنيا لم تتسع لسعادتى كما يقال في مثل هذه الحالات. لم أكن فرحًا ولم أكن حزينًا، كنت مرتبكًا، غير مصدق. انتابنى على الأرجح ذلك الشعور الذي ينتاب أحدنا حين ينتظر طويلًا خبرًا سعيدًا يتمناه، ثم يطول به الانتظار ويطول ولا يأتى الخبر السعيد، فيكاد ييأس من أنه سيأتى، يكاد ينسى الأمر، وحين يأتيه على شكل فجأة بعد طول زمن تكون مُحفزات الانتظار والرّجاء والأمل عنده قد هدأت، أو كفّتْ عن النّشاط».
المُوجع في سنوات «منافى مدن» أنه لم يكن الوحيد الذي يسدد «فاتورة الإقصاء»، فأسرته الصغيرة كانت هي الأخرى مطالبة بـ«الدفع مسبقًا» ودون أي تخفيضات، وهى فاتورة قاسية قال عنها «مدن» في جزء آخر من الكتاب: «حالت تنقّلاتى من بلدٍ إلى آخر دون أن أعيش حياة زوجية مستقرة وممتدة. ولو عددت السنوات التي قضيناها سوية فترة منفاى الطويل فإنها بالكاد تصل خمس سنوات أو ست فقط، نصفها كان في دمشق والنصف الثانى في الإمارات».
وتماديًا في الوجع و«الفاتورة» الباهظة التي سددها «مدن» طوال سنوات اغترابه، كان له مع الموت و«الفقد» جولة موجعة، قاسية، وغير رحيمة، حيث يقول: «للفقدانات تجلّيات مختلفة.. ذات أمسية شتوية باردة من أمسيات ديسمبر (كانون) 1980 في بيروت، دعانى عبد الراشد البنعلي إلى بيته. قال تعالى على العشاء، تصورت تلك واحدة من الدعوات الاعتيادية التي ألفناها. ذهبت بمعية المرحوم حميد عواجي، وصلنا وجلسنا في بيته لتستقبلنا زوجته المضيافة حياة شاهين، أو أم غسان كما كنا نسميها نسبة إلى ابنها البكر غسان. لفت نظرى بعد حين أن أصدقاء آخرين أخذوا في التوافد: عبد الهادى يعقوب، عبد الجليل، وما أن استتب للجميع الجلوس حتى بادر عبد الله بالقول موجهًا حديثه إليّ: يؤسفنا الخبر الذي وصل من البحرين عن والديك.. كان ذلك خبرًا فوق طاقة المرء على التوقع».
أخيرًا.. وليس آخرًا، إلى جانب الحكايات الموجعة والمدهشة التي يرويها «مدن» عن سنوات الترحال والنفى، فإنه يقدم لنا في «ترميم الذاكرة» ما يمكن وصفه بـ«تأريخ لسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين» يستحق أن يُقرأ بتمعن.. حتى تكون هناك احتمالية لأن نفهم ما سيأتى!