المجارى التي طفحت في برِّ مصر
أنْ يستضيفَ برنامج تليفزيونى معروف، أحد مطربى المهرجانات، بعد أيام من تهديده بتحطيم نقابة الموسيقيين، والإساءة إلى نقيبها المطرب الكبير "هانى شاكر"، فإنَّ هذا يمثل انقلابًا صريحًا وواضحًا على توجيهات الرئيس "عبد الفتاح السيسي"، الذي طالب مرارًا وتكرارًا بـ "خطاب إعلامي عاقل ورصين وهادف ورشيد"!
الاحتفاءُ بمثل هذا المنتسب قسرًا إلى مهنة الغناء، والمرفوض رسميًا من النقابة المختصة، وفتح إستوديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي أمامه، يُعتبر تجاوزًا مرفوضًا، أخلاقيًا ومهنيًا. ولولا الكيلُ بمكيالين وأحيانًا ثلاثة وأربعة، لوجبَ حظر البرنامح ووقف مُقدمه الذي يوزِّع سخائمه وشتائمه كل مساء، على من لا يروق له، ولا يواكب أفكاره وقناعاته، كما أنه يُجسِّد عبئًا ثقيلًا على من يعتبر نفسه مدافعًا عنهم.
استضافة العناصر، الشاذة فنيًا، والمنحرفة سلوكيًا، في البرامج التليفزيونية الكبيرة، والتعامل معهم باعتبارهم نجومًا وعباقرة ومشاهير، على حساب النجوم الحقيقيين، وراء ظهور أجيال جديدة مُنحرفة ومضطربة نفسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا. كما أن تصدير هذه النماذج الشائهة بوتيرة منتظمة، سواء من خلال الظهور التليفزيونى، أو استدعائهم إلى فعاليات رسمية أو شبه رسمية، هو ما أوصلنا إلى تلك الحالة غير الأخلاقية المتأخرة، والتي لا يُرتجى إصلاحها في القريب العاجل.
الغريب أنه في الوقت الذي يتم تمكين مطربى المهرجانات فيه من الظهور التليفزيونى، وتسويقهم وعرض بضاعتهم الرديئة، فإنه يتم إغلاق الأبواب بالضبة والمفتاح أمام المطربين الحقيقيين الذين شكلوا وجدان المصريين، مثل: على الحجار ومحمد الحلو ومدحت صالح وغيرهم ممن أجبرهم الزمن الردئ على الهبوط الاضطرارى والتوقف الجبرى.
الظروف التي نمر بها ونعيشها حاليًا، تتطلب خطابًا إعلاميًا مختلفًا وعاقلًا ورشيدًا، كما قال الرئيس السيسي مرارًا وتكرارًا، بدلًا من الانشغال بأهل الغناء والتمثيل والرقص. هناك أولوياتٌ يجب أن تحتل الصدارة إعلاميًا وسط مجتمع، تشير كل المؤشرات والتصنيفات الرسمية والخارجية، إلى تراجعه أخلاقيًا، بالشكل الذي تسبب في ظهور نوعيات خطيرة من الجرائم الجنائية التي يرتكبها أطفال وفتيان وشبان، وسط عجز صارخ من رجالات القانون وعلماء الاجتماع والنفس والتعليم، عن التعامل معها أو تخفيف وتيرتها.
رغم الجهود التي بذلها المجلس الأعلى للإعلام، خلال الفترة الماضية، في ضبط وترشيد الخطاب الإعلامي، إلا أن الأمور تمضى من سيئ إلى أسوأ، خاصة في ظل استمرار سياسة التعامل بانتقائية والكيل بمكيالين، فالمذيع الذي يتم عقابه إذا اقترف خطأ معينًا، لا يتم وقف زميله إذا ارتكب نفس الخطأ، والقناة التي يتم إغلاقهما لسببٍ ما، لا يتم إغلاق غيرها للسبب ذاته، ما يتسبب في بقاء الأخطاء وتفاقمها، حتى وصلنا إلى تخصيص إحدى الفضائيات ساعة يوميًا لأحد المسؤولين الرياضيين الذي يسبُّ بأقذع الشتائم، وأحط الأوصاف، ويطعن بأقذر التهم في شرف من يعتبرهم خصومًا له!
إذا استمرت سياسة الانتقائية في التعامل مع القنوات والبرامج التليفزيونية، وهى سياسة رخيصة وهابطة بلا شك، فليس علينا إلا أن نترقب سيناريوهات أسوأ، وأجيالًا أسوأ، وجرائم أسوأ، وحينئذٍ لن يجدى الندم شيئًا مذكورًا.
وأخيرًا.. إذا أردتم إصلاحًا لهذا المجتمع المتهاوى أخلاقيًا، والمتراجع اجتماعيًا، فأغلقوا فورًا تلك البالوعات التي فُتحت في بر مصر، حتى أغرفتها ونشرت فيها كل صور القبح والابتذال، حتى يمكن إعادة البناء من جديد، لعل وعسى..