على حافة جهنم
حوادث التنمر والقتل الأخيرة التي شغلت الرأى العام، ليست مجرد جرائم معتادة تنتج عن تشاحن بين أفراد في المجتمع، الأمر أخطر بكثير من ذلك الحيز الضيق والرؤية الأضيق، والتي إن استمرت ستؤدى إلى كارثة اجتماعية واحتراب أهلي يعصف بالجميع، وأعنى بذلك ضرورة إعادة صياغة التشريعات الخاصة بحماية المواطنين الأضعف في المجتمع من ذوى المال والنفوذ والعلاقات والتي أصبحت الدستور الفعلى عند تقييم المواطنين لغيرهم بل ولأنفسهم..
فبداية من الكلمة القميئة (ابن ناس) والتي اعتبرها المصريون مديحا وهى في واقعها مذمة تاريخية، حيث كانت تصف المماليك مجهولى النسب، مرورا بـ (أنت عارف أنا ابن مين)، ونهاية بالسيارات التي تتميز لوحاتها عن الأخرى بشعارات وهيئات تهدم قيم المواطنة والمساواة، اشتعلت النزعة الطبقية عند الكثير والتي تحولت تدريجيا إلى عنصرية بغيضة تتفنن في إقامة جدران عازلة بينها وبين الأضعف والأفقر والأقل نفوذا وحظا في المجتمع.
واقعة الطفلة "روان"
قبل أيام تشاجرت طفلتان من نفس العمر في إحدى مدارس الإسكندرية، ولكنهما ليسا من نفس الطبقة، فواحدة ابنة بواب، أي رجل فقير منعدم النفوذ، قليل القيمة والتأثير في أعين مجتمع الطبقية والقوة والجهالة، والطفلة الأخرى ابنة مهندس بترول، وبالقطع هناك فرق شاسع في الدخل بين الوالدين في الحالتين، مما خلق لدى العاملين في المدرسة فرقا في إنسانية كل طفلة وفقا لمكانة والدها وقوة دخلة وقوة نفوذه..
وحدث انحياز أثرت فيه بالقطع قوة المال والمكانة ضد الطرف المسكين الأضعف، فانحاز الجميع ضد ابنة البواب، وتنمروا عليها وأصابوا الطفلة البريئة والتي لا ذنب لها في فقر أهلها وعنصرية المحيطين بها بإصابات نفسية عميقة، أثرت على جسدها النحيف الضعيف، والذي لم يتعاطف أحد معه واتحدوا مع الفقر عليه ونهشوا ما به من بقايا وهن على وهن!
المقزز والمثير للاحتقار أن من تنمروا على تلك الطفلة الأضعف يعتبرون أنفسهم من الطبقة المتوسطة أو التنصيف الأخير فيها، بينما هم فعليا، لولا بعض الملابس التي تغير وتزيف قليلا من الواقع فقراء بل ومعدمون، ويكاد دخل البواب يكون متساويا مع دخولهم المتدنية، ولكنه الانحياز الممزوج بالتطلع الطبقى والعنصرى ضد ابنة البواب لصالح ابنة الباشا مهندس البترول والرغبة في التشبه بالأقوياء أصحاب المال الذي يشترى النفوذ، ومن ثم الترقى الطبقى والذي ينتهى عندنا بالعفن العنصرى!
واقعة "راجح" و"البنا"
تنتشر في الريف المصرى مقولة تعبر عن جاهلية وقبيلية واستهانة بالبشر عندما يكونوا ضعفاء في مواجهة أسرة أو قبيلة نافذة وثرية، وتلك المقولة هي (اقتله وأنا أدفع لك ديته).. هكذا بكل بساطة، ازهق روحا واسفك دما بريئا وانتقم كالحيوانات المفترسة ولا تكترث يا بنى، فأنا أملك المال الكثير، ولن يضيرنا جميعا نثر قليل من الأموال أو حتى الكثير منها مقابل دم هذا الشخص، سندفع ديته !
والدية الآن رأينها من ذوى البلطجى الصغير والذي أشعل الرأى العام وكل من تبقى له قليل من قلب يرى به أو ضمير يصارع نفسه فضائلها وآثامها، فلقد قيل عن عرض مليون جنيه لتنازل أهل المجنى عليه، ولكن.. هناك دية في شكل آخر وهى جلب عشرات المحامين وشراء ذمم بعض الشهود للتأثير في سير القضية، ومنبع كل ذلك هو استشعار النفوذ من طبقات توغلت ماديا واجتماعيا وتوحشت نفسيا وخالت أنفسها قادرة على فعل أي شىء وقلب كل عثرة إلى ملعب لنفوذها وبلطجتها..
أناس اغتنوا وفقا لمعطيات فاسدة ومنحطة فاعتقدوا أنهم هم وأبناؤهم المجرمون فوق البشر العاديين، وأن القتل شىء يسير ما دام هناك دية، وهناك نفوذ وهناك أقلام وقنوات تستطيع شرائها لتنحاز لك وتلبس لك الباطل ثوب الحق وتجعل من العنصرية شيئا قويما وسنة الله في خلقه، وتجعل الناس درجات منها الواطى الذي تنحصر كل حكمة في خلقة إلى أن يصير مطية أو سلما أو حتى دابة يركب عليها الثرى القوى ليلمس السماء..
السماء تلعنكم والله لا يرضى لعباده الظلم ورسوله وصف العنصرية بأنها (منتنة)، نحن في خطر مجتمعى أكثر فداحة وتأثيرا من الإرهاب، نحن في كارثة حقيقية يجب وقفها بشىء واحد وهو المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين.
fotuheng@gmail.com