رئيس التحرير
عصام كامل

"فراش المدرسة".. قصة 7 شهور خلف خطوط العدو


عشرات الأفلام صنعتها هوليوود لتمجيد بطولات الجنود الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وهم لم يبذلوا معشار ما بذل أبطالُنا، الذين كتبوا التاريخ المجيد، وقهروا المستحيلات، وحققوا المعجزات، ورووا بدمائهم تراب الوطن، وضحوا بأرواحهم في سبيل تحرير سيناء من دنس الاحتلال الإسرائيلي في حرب العزة والكرامة.


من هنا كان الاحتفاء الجماهيري الكبير بفيلم "الممر"، الذي أعاد للأذهان لمحات من مظاهر تلك البطولات الجبارة. بطلنا اليوم، هو بطل الصاعقة الرقيب مقاتل "عبد الرءوف جمعة عمران"، من قرية الشوش بمركز سوهاج، والذي شارك في حروب اليمن والاستنزاف وأكتوبر، وقضى نحو 9 سنوات في جيش مصر، وهو أيضًا أحد أفراد كتيبة الصاعقة التي عرفت عسكريًّا بـ "الكتيبة المفقودة".

البطل "عبد الرءوف"، لم يكن عمره حينما التحق بالخدمة العسكرية قد تجاوز الإثنين والعشرين عامًا، ظل لمدة 7 أشهر خلف خطوط العدو، يصارع من أجل البقاء، عقب إصابته بدفعة مدفع رشاش في الحوض، وبعد أن تماثل للشفاء استمر، هو ورفاقه، سائرين على أقدامهم لمدة 30 يوما ليلا، وينامون نهارا، مهتدين بالنجوم في السماء، حتى عادوا إلى كتيبتهم أبطالا رافعين رءوسهم فخرًا.

روى البطل بنفسه، تفاصيل القصة العظيمة، قائلًا: انضممت للقوات المسلحة في نوفمبر 1965، واستمر التدريب 6 أشهر، بعدها سافرتُ برفقة إحدى الكتائب إلى اليمن، وظللت هناك عامين، وخلال عدوان 67، طلبت القيادة عودة الكتيبة لتأمين القوات على ميناء "أبو الغصون"، على ساحل البحر الأحمر، ونفذنا الأوامر كاملة، وقمنا بعملية التأمين، طبقًا لما هو مخطط من قبل القيادة العسكرية.

انتهت مهمتنا بميناء "أبو الغصون"، وعدنا للكتيبة الأصلية مرة أخرى، وبدأت عمليات التدريب مجددًا، وصدر القرار بإلحاقنا بالجيش الثانى الميدانى بقناة السويس التي كانت مسرحًا لحرب الاستنزاف، وهذه المنطقة كانت تشهد عمليات قتالية ليل نهار، واستمر هذا القتال 4 سنوات، وكتيبتنا "الصاعقة" هي التي كانت تتصدى لأي هجوم، وأي اختراق.. ليس هذا فقط، بل كنا نهاجم العدو خلف خطوطه، ونقوم بتثبيت الألغام خلف خطوطهم.

بعد ذلك صدرت الأوامر لنا بتنفيذ عملية "أم العش" لوقف إمدادات العدو، وتم التجهيز والإعداد الجيد لأعمال التنفيذ، وتم إعداد الكمين الليلي على الضفة الشرقية للقناة، وتم تحديد إشارة البدء، وانطلق الأبطال، وقمنا بتدمير دبابتين و4 عربات نصف جنزير، والقضاء على جميع إمدادات العدو الإسرائيلي، وقتلنا 60 جنديًّا من قوات العدو الإسرائيلي، وأسرنا جنديًّا منهم، وما زلت أذكر مجموعتي بالكتيبة، بقيادة الملازم أول "عبد الحميد خليفة"، والذي وصل لرتبة لواء..

ومجموعة ثانية بقيادة الملازم أول "مجدى شحاتة"، وكان معنا النقيب "رشاد عمران"، ولكن بعد أن قمنا بتكبيد العدو خسائر فادحة بدأت القوات الإسرائيلية في إطلاق النيران بشكل جنوني، غير مسبوق، ومكثف، واستمرت الطلعات الخاصة بالطيران لمدة 3 أشهر متواصلة، وحدثت مذبحة مدرسة "بحر البقر"، وكان هذا الوقت من أشد الأوقات، وأصعبها، ولكن الله سلَّم، وعدنا مرة أخرى للكتيبة.

تم استدعائي للمشاركة في حرب أكتوبر 1973، وقد حُدِّدت مهمتي أنا وزملائي بالذهاب إلى الزعفرانة.. وكان تشكيل الكتيبة وقتها يضم 7 طائرات مروحية، وقامت هذه الطائرات بإنزالنا خلف خطوط العدو بمنطقة "أبو رديس"، التي تبعد عن السويس بـ 300 كيلو، وكانت مهمتنا قد حُدِّدت بعرقلة ووقف مطار أبو رديس حتى لا يعمل أثناء حرب أكتوبر، وشلِّ حركة قوات العدو الإسرائيلي، في جنوب سيناء، ومنع زحفها لقناة السويس.

وبدأت المعركة، ودارت رحى الحرب، وأخذنا نقاتل 6 أيام خلف خطوط العدو، وانقطعت عنا الإمدادات من طعام وذخيرة، ونشب اشتباك قوي مع العدو، واستشهد أفراد الكتيبة بالكامل (41 فردًا)، ولم يتبقَ منها، إلا 9 جنود. 

وفى هذه الظروف كنا نتقاسم المياه والطعام، وكنا نمتص "الزلط"، وسط عمليات التمشيط من قبل الجنود الإسرائيليين؛ للبحث عن الناجين منا، وأثناء محاولتنا العودة نصبوا لنا كمينًا، وقاموا بإطلاق النيران، وتمكنوا من أسر 5 جنود مصريين، وبقينا 4، وأنا أذكرهم بالاسم؛ فهم: المقاتل "السيد" من المنصورة، و"محمد عبد الرحمن" من الشرقية، والملازم أول "عبد الحميد خليفة" قائد المجموعة، والعبد الفقير إلى الله، ولكني أُصبت بدفعة رشاش في الحوض.. وقام زملائى بحملي، وابتعدنا عن مرمى نيران العدو، واختبأنا داخل مغارة جبلية من حجر المنجنيز الأسود، ولم تكن لدينا معدات علاجية إلا "الميكروكروم".

وقد ساعدنا اثنان من العرب الموجودين بالصحراء، وكانا يحضران لنا الطعام، ولو عَلِم العدو الإسرائيلي بذلك لكانوا قضوا على قبيلتهم كاملة، وما زلت أذكر أسميهما حتى الآن؛ فهما: "بركات" و"صبحي"، وظللنا بالمنطقة 7 أشهر كاملة، إلى أن منَّ الله عليَّ بالشفاء.

بعد ذلك قررنا الرحيل، وظللنا نسير بالصحراء لمدة 30 يومًا، نسير ليلًا ونتوقف مختبئن داخل المغارات نهارًا.. نهتدي بالنجوم، حتى وصلنا إلى المكان المقرر، وعندها كان يقال لنا إن كتيبتنا عُرفت باسم "الكتيبة المفقودة"، وإنه لم يكن هناك أمل في عودتنا إطلاقًا.

عاد البطل، وقد اسودت ثيابه، وثار شعره، وتمزق حذاؤه العسكري، في أواخر أبريل 1974، بعد مرور سبعة أشهر على إنزاله وإصاباته القاتلة، وانهمار دمه على تراب الوطن.. ليقف المشير "أحمد إسماعيل" أمامه ليؤدي له التحية العسكرية، أمام بطولته الاستثنائية، وهو لا يزال بتراب المعركة لم يغيِّر حتى حذاءه.

"عبد الرؤوف جمعة عمران"، لم يتم تكريمه بنوط واحد.. لم تُصنع له تماثيل النصر.. ولم يسعَ حتى للحصول على عضوية جمعية المحاربين القدماء.. وعاش ما تبقى له من العمر داخل منزله المقام بـ "الطوب البلوك"، حيث عَمِلَ "فرد نظافة" (فراش) بإحدى مدارس سوهاج!!
الجريدة الرسمية