د. محمد حسين هيكل يكتب: مأساة الفنون الجميلة
في جريدة الأخبار عام 1963 كتب السياسي الأديب الدكتور محمد حسين هيكل مقالا قال فيه:
مصر مهد الفن منذ أقدم العصور، والآثار الباقية من عهد الفراعنة منذ آلاف السنين خير شاهد على ذلك.. أما اليوم فالأمر مختلف.
والفنون الجميلة في مصر تعاني أزمة تحدث عنها وكيل وزارة الإرشاد وسماها مأساة الفنون الجميلة، وقال: إنه اقتنع بعد زيارته للمجر بضرورة فتح مدارس ابتدائية وثانوية للموسيقى والتمثيل ورقص الباليه والواقع أن هذه الفنون في مصر تركت منذ عهد بعيد للصدف والأهداف والأفراد الموهوبين.
ولم تفكر الدولة في شأنها لأنها لم تعدها من المقومات القومية، فكان كل الذي صنعت أن دفعت معونات مالية لهؤلاء الأفراد الموهوبين في بعض الاحيان، إن تمتعت برعايتها بعض المعاهد.. ولكنها لم تعر الأمر من العناية ما هو جدير به.
وقد تحركت الصحافة وكتبت في الموضوع حين قيل إن بعثة من أهل الفن ستسافر إلى الصين لعرض فنوننا الشعبية هناك.
وعلى إثر هذه الحملة الصحفية صرح وزير الإرشاد القومي بأن الحكومة لن تسمح بسفر هذه البعثة إلا يوم تطمئن إلى أن هذا الفن الشعبي درس ويكون عرضه لمصلحة مصر.
أما وقد أخذت الجهات المسئولة تفكر في الأمر هذا التفكير الجدي، فإن لنا رجاء أن ننتقل العناية بالفنون الجميلة خطوة واسعة، وأن تكون دراستها محل تفكير عميق.
فلم تصبح هذه الفنون في بلاد العالم كله من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها.. بل أصبحت من المقومات الأساسية لحياة المجتمع، وأصبح تبادل الأمم إياها من الروابط التي تسعى الأمم اليها.
ولم ينس أحد منا ما أسبغه الروس والبريطانيون جميعا على زيارة فرقة الباليه الروسية للندن من الأهمية حين قيل أن هذه الفرقة تفكر في الامتناع عن السفر تضامنا مع فنانة روسية اعتبر زملاؤها أنها عوملت معاملة غير عادية.
كما أننا لم ننس كيف اغتبط البريطانيون جميعا حين قررت هذه الفرقة أن تزور لندن بعد ذلك وحين زارتها بالفعل.
إذا نحن فكرنا جديا في العناية بالفنون الجميلة، وكان تدريس قواعدها ومبادئها وانتشار المعاهد لهذا الغرض بعض ما يتجه إليه هذا التفكير فقد وجب ألا نفكر في المبادئ والقواعد نفسها، فنحن إلى اليوم مقلدون في التمثيل.. وأكثر رواياتنا منقولة عن الغرب أو مقتبسة منه.
وقد اجتمع في القاهرة منذ عشرين سنة أو تزيد مؤتمر بحث شئون الموسيقى ثم انفرط عقده، ولم نغير نحن من خطة الارتجال التي نسير عليها من قبل ذلك.
ولم نفكر في العدول عن رقصنا إلى رقص الباليه الذي يتحدث عنه وكيل وزارة الإرشاد القومي.
ولا سبيل إلى تدريس مواد ليست لها قواعد ثابتة إلا إذا فرغ المختصون من وضع هذه القواعد سواء بنقلها عن غيرنا أم بابتكارها أو بإقرار القديم رغم شكوانا منه.
إن النظر في الإصلاح بهذه الطريقة هو وحده الذي يؤدي إلى نتيجة ذات قيمة، لكنه كما يرى القارئ يحتاج جهدا غير قليل، ولا بد لنا من أن ننفق هذا الجهد قبل أن نبلغ الغرض الذي ننشده، وقبل أن نفكر في تبادل فنوننا مع فنون غيرها.
فإذا نحن فعلنا وصادفنا التوفيق، كنا قد خطونا الخطوة الواسعة التي أشرنا إليها في أول هذه الكلمة، وكان من حقنا أن نأمل للفنون الجميلة في بلادنا مستقبلا أفضل.