.. ورحل في صمت وهدوء المفكر الدكتور سعيد اللاوندى!
في قريتنا عندما يتحدث أحد بلغة غير مفهومة سواء كانت أجنبية أو لهجة غير مفهومة يقال له "أنت بتتكلم لاوندى"، ولأول مرة أعرف أن هناك عائلة أو ممكن أن يكون هناك اسم يحمل "لاوندى"، كان في منتصف الثمانينيات وفى حجرة سكرتارية التحرير التي كانت تضم الاساتذة "سليم مباشر"، "سامى فريد"، "محمود فايد"، "سامى دياب"، وأحيانا "فريد مجدى"، ونادرا "سمير صبحى" و"ماهر الدهبى"، وكنت في ذلك الحين أحد الشباب الذي يطمع في مكانة في الحياة الصحفية..
في أحد الأيام قال الراحل أستاذنا "محمود فايد" والمعروف بخفة الدم والسخرية: كل رسالة من باريس من واحد اسمه "سعيد اللاوندى"، هو يعنى إيه "لاوندى"؟ وكل يوم والثانى يثير مشكلة هذا الاسم وكأنه أصبح عقدة لا بد من حلها!
وبحكم متابعتى للأهرام كان سهلا التعرف على الصحفى النشط "سعيد اللاوندى" الذي أحدث نشاطا ملحوظا للأهرام في باريس، ولكن هذا كله أمور عادية، تمر الأيام وأتولى مسئولية مركز "رامتان" الثقافى ببيت عميد الأدب العربى طه حسين، فوجئت بأحد الأيام تخبرنى إحدى الزميلات من فريق العمل بأن هناك صحفيا اسمه الدكتور "سعيد اللاوندى" يريد مقابلتى هو وزوجته، فسألتها عن ماذا يريد؟ فلم تعرف شيئا!
كان هذا أول لقاء بيننا، طبيعى رحبت به وبالسيدة زوجته، وفاجأنى بسؤال: ماذا فعلتم بابنى "شادى"؟
انزعجت جدا وقلت: خيرا.
قال: شادى عمره ما رسم ولا مسك قلم شخبط في ورقة، ولكن من يوم ما بدأ يأتى ورش الأطفال في "رامتان" لم يعد يبطل رسم وشخبط على كل شىء في البيت!
قلت: والله هذا جميل من وجهة نظرى أنا ولا أعرف ما رأى حضرتك؟
قال: أنا جاى أشكر المركز على جهده.
قلت: يا دكتور هذا واجبنا تجاه أولادنا، الجميع هنا يؤدى بحب ومقتنع ويحب عمله!
قال: هل ممكن أساعدكم في شىء؟
قلت: أن تجعل شادى وشقيقه الأكبر يواظبان على الحضور لأن نجاح الورشة متوقف على أولياء الأمور!
في ذلك الوقت طلبت منى السفيرة مشيرة خطاب المسئولة عن المجلس القومى للمرأة والطفولة بعض أعمال أطفال الورشة ممكن أرشحها للاشتراك البينالى العالمى، الذي سيتم استضافته في مصر وسيقام في الأوبرا، رحبنا جدا وتم اختيار خمسين عملا من خلال أفراد فريق العمل في الورشة، وتم إرسالهم إلى السفيرة مشيرة خطاب وتم نسيان الأمر، إلى أن وصلنا خطاب من المجلس القومى للمرأة والطفولة بدعوة لحضور الافتتاح..
وتم إبلاغنا بأنه تم اختيار ستة وثلاثين عملا للعرض في البينالى، والأهم من هذا تم اختيار ستة أطفال سيتم تكريمهم من السيدة سوزان مبارك، والمفاجأة كان من بينهم الطفل "شادى سعيد اللاوندى" الذي كان عمره ستة أعوام فقط!
من هنا توطدت علاقتى بالدكتور "سعيد" إلى درجة أصبحت أخوة وصداقة قوية بدون أدنى مصلحة أو أغراض، وتعرفت على ثقافته العالية وعلمه الغزير، فهو سوربونى وعاش في عاصمة النور والتقى بكبار مثقفى أوروبا، يضاف إلى هذا طبيعته الشغوفة للمعرفة حتى أطلق عليه خبير العلاقات الدولية، وأرى هذا التشبيه أقل بكثير من قامته وقيمته التي يعبر عنها عطائه، فأنا أراه ينتمى إلى مدرسة عميد الأدب العربى "طه حسين" التي تطالب بضرورة وأهمية أعمال العقل وحتمية التعرف على ثقافات العالم بدون أخذ مواقف مسبقة..
أذكر كنا في ندوة أقيمت في المؤسسة المصرية النوبية، تتحدث عن العطاء الإنساني لجنوب مصر في النوبة واحتد النقاش، فأهل النوبة يرون أن المعابد والتراث الفنى هو الأكبر قيمة، إلا أن د.سعيد اللاوندى أصر أن "عباس محمود العقاد" هو أهم منجزات النوبة في التاريخ، وبالرغم من تكهرب الحوار ومحاولتى إنهاء الخلاف إلا أنه أصر على موقفه.
وبالرغم من صداقتنا القوية الا اننى لم أستضيفه في مركز "رامتان" طه حسين الثقافى، إلا مرتين الأولى تم مناقشة كتابه المهم "كذب المثقفون ولو صدقوا"، والذي يعد من الكتب المتميزة، والمرة الثانية كان لقاء عن الدستور الجديد في عهد الرئيس الأسبق "عدلي منصور"، ودائما كان له الحضور بين الجمهور بثقافته وتركيزه الشديد فيما يتكلم، لهذا كان دائما قريبا من المتلقى، وبالرغم من هذا كان دائم حضور المعارض الفنية في المركز..
والحقيقة من المواقف التي كانت تعبر عن الهم المشترك، كان يتصل بى للتأكد أني في "رامتان" طه حسين، ويأتى ويجلس نشرب شاى المودة والمحبة، وكان يأتى وكأنه يحمل هموم الدنيا كلها، ممددا ساقه على ترابيزة أمامه وكأنه مستلقى على ظهره مستندا رأسه على الحائط، كان يقول إننا لم نفعل شيئا وها هي الحياة تنتهى بنا، والعمر قارب على الغروب، ومن لا قيمة لهم يتصدرون كل المواقع ويحصلون على كل شىء، أما من تعلم وتثقف وخبر الحياة ومؤهل على القيادة، تلفظه الدولة..
بنبرات حزينة كان يتحدث وكأنه أنا، تعب وعرق ويذهب المنافقين والدجالين لتصدر المشهد، الرائع أنه كان يتحدث معى وكأنه ينظر في المرايا، فلم أسمعه في أي مرة يشكو من شىء، حتى وهو يصارع المرض لم يشكُ، ويذهب إلى حيث يدعى للحديث في الأحداث الساخنة بالرغم من المرض.
واليوم الجمعة 11 من أكتوبر رحل في هدوء، وبالرغم من معاناته مع المرض لم يكتب عنه خبر في صحيفة أو موقع بالرغم من أحد كبار المثقفين في العالم العربى، كانت تتابعه الصحافة الجزائرية والمغربية والتونسية حتى العراقية في ظل غياب الصحافة والإعلام المصرى، رحل المفكر الرائع "سعيد اللاوندى" وسنبدأ في الحديث عنه كالعادة، في آخر حوار بيننا وهو طريح الفراش في المستشفى، كنت أدرك وغيرى أنها النهاية، والذي ألمنى كلماته ردا على كلماتى بأنه سيشفى وسنقيم له ندوة في نقابة الصحفيين فقال: واضح أن النومة دى هي النهاية ولم يعد في العمر بقية!
رحم الله الإنسان النبيل والمفكر الكبير الدكتور سعيد اللاوندى الأخ الذي لم تلده أمى!