البطل المجهول.. صاحب الفضل في نصر أكتوبر
كان الكاتب الصحفي "أمين محمد أمين"، مدير تحرير "الأهرام" السابق، شاهدًا على واقعة مؤسفة، لكنها تعبر، بجلاء، عن أسلوبنا في التعامل مع "أبطال الظل"، والعظماء والرموز الذين يعملون في هدوء، بعيدًا عن أضواء الكاميرات، وصخب الإعلام.
حدثت الواقعة أواخر عام 2010، حينما كان أحد لاعبى المنتخب الوطني لكرة القدم في أوج شهرته، وبينما كان يسير في مدينة نصر، بطريق المنصة، إذا به يصدم بسيارته سيارة شخص متقدم في العمر، مجهول، لا يعرفه أحد.
ثار اللاعب، رغم أنه المخطئ، وتدخلت الشرطة، وبالطبع لم يتعرف الضابط على المواطن، في الوقت الذي فرح فيه بالتعرف إلى النجم الكبير.. تدخل الضابط لإنهاء المشكلة بالضغط على الرجل "المسكين"، ونصحه بأن يسارع بالانصراف، حتى لا ينقلب الموقف ضده!!
ولم يعرف الناس الذين التفوا حول اللاعب، ليعتذروا عن خطأ الرجل (!!)، ويلتقطون الصور مع اللاعب الكبير، مَنْ هو هذا الشخص، الذي كان موضع عطف بعضهم، فمصمص شفاهه، وربت على ظهره مواسيًا.
المفاجأة؛ أن هذا الشخص المجهول كان هو الدكتور "محمود يوسف سعادة"، الباحث بالمركز القومي للبحوث" سابقًا، وقبل 37 عامًا من ذلك الحادث، كان الدكتور سعادة قد حقق معجزة حولت مجرى التاريخ، وشجعت الرئيس "أنور السادات" على اتخاذ قرار الحرب في 6 أكتوبر.
ولنطالع القصة من بدايتها.. في مطلع عام الحرب، 1973، توالت التقارير أمام اللواء "محمد على فهمي"، قائد الدفاع الجوي، تكشف عن تفاصيل الحالة الفنية للصواريخ المضادة للطائرات، والتي صارت على شفا مشكلة ضخمة.
كان الموقف بالنسبة لوقود الصواريخ شديد السوء، فالجزء الأكبر منه قاربت صلاحيته على الانتهاء بعد شهور قليلة، والجزء الآخر انتهت صلاحيتُه فعلا، وباتَ عديمَ الجدوى، والإمداد السوفيتي من هذا الوقود متوقفٌ.
هبطت تفاصيلُ الأزمة الكارثية كالصاعقةِ على مسامع "السادات"؛ فصواريخُ الدفاع الجوي، يقع عليها العاتقُ الأكبرُ في حماية سماء مصر من الطيران الإسرائيلي خلال المعركة.
كان انتهاء صلاحية الوقود عائدًا إلى توقف السوفييت عن توريد هذا الوقود لمصر، عقبَ قرار الرئيس الراحل بطرد الخبراء الروس في 1972. جُنَّ جنونُ "السادات"، وعلى الفور عقد اجتماعًا عاجلًا لكافة قيادات الجيش، لمحاولة التوصل لحلِّ للمشكلة، خاصةً أنَّ الموعدَ الذي حدَّده لشنِّ الحرب لم يتبقَ عليه سوى 4 شهور.
في يونيو 1973، عُقِدت اجتماعات مكثفة شارك فيها كافةُ الخبراء، وخلالَ تلك الاجتماعات طلبَ أحدُ المشاركين الاستعانةَ بأستاذ في المركز القومي للبحوث، لا يتجاوز عمره 35 عامًا، عُرِفَ عنه الذكاءُ الحادُّ والخبرةُ الكبيرةُ في هذا التخصصِ الدقيقِ.
خلال دقائق، انتقلت سيارة لمنزل العالم المصري، "محمود يوسف سعادة"، وطلب منه قائدها التوجه معه لمقابلة مسئولين كبارٍ، وفور وصوله عرضوا عليه تفاصيل المشكلةِ التي تؤرق الرئيسَ الراحلَ.
لم يغمض للعالم المصري "محمود يوسف سعادة" جفن، حتى توصل مع المسئولين في معامل الجيشِ إلى الحلِّ السحري الذي أبهر "السادات" وقتها، وقرر بعده اتخاذ قرارَ الحرب، وتحديد موعدها بدقة، فقد أبلغه كبارُ قادةُ الجيشِ أنَّ المشكلة انتهت، وصار توفير الوقود اللازم ممكنًا.
ابنة العالم الكبير، الدكتورة "سعاد محمود سعادة"، المتخصصة في ترميم الآثار، روت تفاصيل المعجزة التي حققها والدها الدكتور مهندس "محمود يوسف سعادة"، الأستاذ بقسم التجارب نصف الصناعية بالمركز القومي للبحوث، نائب رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، مدير مكتب براءة الاختراع في التسعينيات، الأستاذ المتفرغ بالمركز القومي للبحوث، والحائز على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون، قائلةً: إن الحلَّ الذي توصل إليه والدها، بالتعاون مع الجيش، هو تكوين الوقود من العناصر المستخدمة فيه، والتي لم تنتهِ صلاحيتها بعد، والاستعانة بالمواد الخام المتوافر مثلها في مصر لإعادة تصنيعه من جديد، وهو ما حدث، مضيفة أنه تم توفير كميات هائلة منه، الأمر الذي أدى في النهاية لخوض الحرب والانتصار الكبير.
وأكدت أن والدها "محمود يوسف سعادة"، نجح، خلال شهر واحد، في إنتاج 45 طنّ وقود من الوقود منتهي الصلاحية، حيث تمكن من فك شفرة مكونات الوقود إلى عوامله الأساسية، وأعاد تكوينه، وتم إجراء تجربة شحن صاروخ به وإطلاقه، ونجحت التجربة تمامًا، وغمرت الرئيس "السادات" وقادة الجيش السعادة والفرحة بذلك. وبالفعل كان ذلك أحد أهم أسباب نجاح حائط صواريخ الدفاع الجوي المصري في تدمير 326 طائرة إسرائيلية خلال حرب أكتوبر.
أوضحت الدكتورة "سعاد" أن والدها كان من أوائل من عملوا في مجال الكيمياء الصناعية والموجات فوق الصوتية في مصر، حيث توصل كذلك لحل مشكلة أخرى كبيرة كانت تؤرق المسئولين عن الزراعة المصرية، وهي الفئران الحقلية الكبيرة التي كانت تلتهم المحاصيل، ولم تفلح المبيدات الحشرية في التخلص منها، وتمكن الدكتور" سعادة" من استخدام الموجات في إزاحة الفئران والتخلص منها نهائيا.
العالم المصري "محمود يوسف سعادة" تخرج في كلية الهندسة قسم الكيمياء الصناعية، وتزوج من ابنه أستاذ التخطيط المصري الشهير "سيد كريم"، الذي يرجع إليه الفضل في وضع التصميمات والتخطيط العمراني لعدة مدن مصرية وعربية، مثل بغداد الجديدة ودمشق الجديدة وأبوظبي، وصاحب مشروع تخطيط القاهرة الكبرى عام 1952، وأول من أدخل عمارة الأدوار العالية إلى مصر.
كان عمرها 16 عاما عندما تزوجها، ولم تكن قد أكملت دراستها، وساعدها والدها العالم الراحل في إكمال مشوارها الدراسي، حتى حصلت على الدكتوراه في الآثار، وأصبحت مدرسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وفي 2011، حيث كانت مصر تئن تحت وطأة المظاهرات والاحتجاجات، والتدخلات الخارجية، صعدت روح العالم الراحل إلى بارئها.. ومثلما عاش في الظل، رحل في صمت.. فلم يشهد جنازته إلا عددٌ قليلٌ من العلماء الذين كانوا على معرفة بدوره العظيم في حرب أكتوبر، وبأنه هو صاحب الفضل الأكبر في النصر التاريخي الذي حققته مصر وجيشها.