تحت شعار «إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة».. العراق ينتفض ضد «الفساد والاحتلال الفارسي».. نظام الملالي يستخدم ميليشياته للسيطرة على الغضب الشعبي.. ومخاوف من وضع القوات المسلحة العرا
منذ سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 2003 ظهرت إحصائيات صادمة عن حجم الفساد في بلاد الرافدين، حيث أهدر الفساد 410 مليارات يورو من ثروات العراق، فضلًا عن الاقتصاد المتدهور، ونسبة بطالة تجاوزت 25% بين الشباب، ونقص حاد في الخدمات والبنى التحتية الخاصة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، ما دفع إلى نزول المتظاهرين إلى الشوارع من جديد، للإطاحة بحكومة «عبد المهدي» التي تتحمل - وفقًا لشواهد عدة - المسئولية كاملة عن تردى الأوضاع في العراق، فضلًا عن غضها الطرف عن العبث الإيراني ببلاد الرافدين.
سقوط صدام
«سقط نظام صدام.. والفساد لا يزال حاضرًا بقوة.. والمؤامرة الإيرانية لا تزال تنفذ في بلاد الرافدين».. معادلة كشفتها حالة الغضب الشعبي التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد ومحافظات أخرى جنوبية، والتي تمثلت في خروج مظاهرات حاشدة، مطالبة بإسقاط حكومة «عبد المهدى» وتحسين الخدمات ومكافحة الفساد، بعد شعور الشباب بالإحباط، بسبب عدم وفاء الحكومة بوعودها بإجراء تغييرات جذرية في حياة العراقيين، مما دفعهم إلى الخروج إلى الشوارع في احتجاجات عنيفة منذ يوم الثلاثاء الماضي، نشبت خلالها مواجهات مع القوات الأمنية؛ مما تسبب في وقوع العديد من الضحايا بمقتل مائة شخص، وإصابة أربعة آلاف أخرين.
تهدئة الشارع
من جانبها حاولت الحكومة العراقية تهدئة الشارع من خلال رفع حظر التجوال الذي فرضته قبل أيام في بغداد وعدد من مدن الجنوب وتحداه المحتجون، كما سمحت السلطات للمشاة بالوصول إلى ساحتي التحرير والسنك اللتين وقعتا فيهما تظاهرات عنيفة خلال الأيام الماضية، في الوقت الذي فشل فيه مجلس النواب العراقي في عقد جلسة لمناقشة مطالب المتظاهرين، بسبب مقاطعة كتل نيابية أبرزها كتلة «سائرون» -صاحبة أكبر مقاعد في البرلمان- ويدعمها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
استقالة الحلبوسي
التقى ممثلون عن الحراك الشعبي مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وطالبوه إلى الاستقالة، بعدما طلب منهم خلال اللقاء إنهاء المظاهرات مقابل وعد بالاستجابة لمطالبهم، غير إن الناشطين رفضوا ذلك وأصروا على تقديمه لاستقالته، لتعلن الحكومة العراقية عن تحركها في اتجاه عقد لقاءات مع بعض الشخصيات البارزة في الحراك، لمناقشة مطالبهم، بعدما شدد الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، على ضرورة محاسبة المتورطين في استخدام العنف، وحفظ سلامة المتظاهرين في العراق.
التوغل الإيراني
ولم يخف عن متابعي تطورات الأحداث في العراق، رفض المتظاهرين للتوغل الإيراني في بلادهم، حيث ترددت خلال التظاهرات عبارات مثل «إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة»، ليبعث المتظاهرون رسالة إلى إيران بعد أعوام من تدخلها في شئونهم، وتسببهم في تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، حسبما أكد مصدر عراقي مطلع.
وعلى مدار الأشهر الماضية، ظهرت حالة الغضب الشعبي من التدخلات الإيرانية، والدليل على ذلك قيام بعض العراقيين بحرق القنصلية الإيرانية، وخروج مسيرات على فترات متباعدة تطالب بوقف العبث الإيراني بمقدرات العراق، إلى أن وصل قمة الغضب خلال الحراك الشعبي الحالي بحرق المتظاهرين العلم الإيراني وترديد الهتافات المناهضة لإيران وقاداتها.
وأرجع المتظاهرون حالة الفوضى التي يعاني منها العراق وانتشار المخدرات وتصاعد الفتن بين المواطنين وتنامي أدوار الميليشيات المسلحة، إلى الدور العراقي الذي لعبته إيران في أعقاب الغزو العراقي واستغلالها لسوء الأوضاع في البلاد، من أجل زرع رجالها في منصات الحكم، والسيطرة على القرار العراقي، إلى أن وصل غضبهم إلى أشده مع إعلان عزل قائد قوات مكافحة الإرهاب، الفريق عبد الوهاب الساعدي، وتداول معلومات تفيد بأن إيران وراء ذلك القرار، خاصة بعد تصاعد شعبيته بين المواطنين، وتقديرهم لدوره في مكافحة تنظيم داعش وإسهامه في تحقيق انتصارات متتالية أدت لدحر التنظيم في العراق.
نموذج الحرس الثوري
وتجلى بشدة الدور الإيراني على مدار الأعوام الماضية في بذل كل الجهد لإعادة صناعة نموذج الحرس الثوري الإيراني في العراق من خلال الحشد الشعبي، لذلك أصبحت الحرب على أشدها تجاه الجيش الوطني العراقي، وتم دفع السلطة الموجودة لاتخاذ قرارات من شأنها دمج قوات الحشد الشعبي في الجيش العراقي، بهدف فرض سيطرة الحشد عليه على المدى الطويل.
اغتيال النشطاء
ويبقى التخوف الأكبر لدى المتظاهرين من اتجاه طهران للإيعاز باغتيال النشطاء الثوريين العراقيين، والدفع نحو مواجهة دامية مع المتظاهرين، واستخدام الميليشيات الموالية لإيران في مواجهة التظاهرات، في وقت أكد المتظاهرون فيه استخدام الذخيرة الحية والقنابل اليدوية لتفريقهم وقتل أكبر عدد منهم، مع استمرار الدفع لمحاولة وضع الجيش العراقي في مواجهة أمام الشعب.
إقالة الساعدي.. القشة التي قصمت ظهر البعير
على الرغم من تكرار التظاهرات في العراق خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير، إلا أن قرار الحكومة العراقية بأوامر من نظام الملالي بإقالة القائد العسكري الفريق عبد الوهاب الساعدي المفاجئ، كان سببًا في تحريك الشارع العراقي، لا سيما وأنه ينحدر من عائلة شيعية فقيرة تشبه حال كثير من العراقيين.
وفى هذا السياق يرى مراقبون أن «قرار إقالة الساعدي هو من أشعل شرارة الأزمة في العراق، خاصة بعدما تحدثت تقارير إخبارية عن أن فصيلين تابعين لميليشيات الحشد الشعبي مارسا ضغوطًا على رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، بأوامر من إيران، مما تسبب في إبعاده من قوات مكافحة الإرهاب ونقله إلى وزارة الدفاع العراقية، حيث رفع المتظاهرون صورا للقائد الساعدي، وعبروا عن دعمهم له في إشارة ضمنية إلى أنه بات يمتلك دعما شعبيًا كبيرًا».
ومن جهتها رأت وكالة «أسوشيتد برس» الإخبارية الأمريكية أن التظاهرات التي تشهدها بلاد الرافدين خلال الأيام الماضية تمثل تحديا غير مسبوق للحكومة التي وصفتها بـ«الهشة»، مشيرة إلى أنه على الرغم من أن الكثير من المتظاهرين أصحاب دوافع اقتصادية ويطالبون بتغيير الحكومة بسبب فشلها في تحسين الخدمات العامة وخلق الوظائف للعاطلين، إلا أن الكثيرين أيضا حملوا ملصقات لقائد شعبي - الفريق عبد الوهاب الساعدي - ملقية باللوم على بعض السياسيين المدعومين من إيران.
مساعدة تغلغل داعش
ولفت التقرير الذي أعدته الوكالة الأمريكية إلى أن «رئيس وزراء العراق طرد الفريق الساعدي من منصبه الأسبوع الماضي في الوقت الذي ينسب الشعب العراقي إليه قيادة الحرب ضد تنظيم (داعش) الإرهابي، وهو الأمر الذي أغضب كثيرين، خاصة بعدما كشف مسئول مطلع لوكالة (فرانس برس) عن أسباب إقالته من منصبه، والتي تتلخص في إبعاد الجنرال الساعدي وتعيين شخصية مقربة من إيران، وبالتالي لن تقف قوات مكافحة الإرهاب عقبة بطريق تلك الفصائل».
عناصر واشنطن
على الجانب الآخر برر مسئولون قرار رئيس الوزراء العراقي يأتي في إطار عملية «تطهير» لمسئولي الأمن الذين يعتبرون مقربين من واشنطن، وهو التبرير الذي رفضه الشارع العراقي، وسرعان ما تمت الدعوة للنزول إلى الميادين للاحتجاج على القرار، حيث وصف السياسي العراقي غالب الشابندر قرار عادل «عبد المهدي» بخصوص الساعدي بأنه «آخر طعنة في صدر العراق وبداية للقضاء على الجيش العراقي وتسليمه لقيادات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة».
من جانبه يرى السفير محمد المنيسي، سفير مصر الأسبق في قطر وعدد من الدول العربية، أن «الحرب الأمريكية 2003 على العراق تركت العراق بعد أن أصبحت ولاية من ولايات إيران، حيث قدمتها، على حد وصفه، على طبق من ذهب لإيران، فخلال فترة حكم صدام حسين التي استمرت لمدة 30 سنة كل قيادات الشيعة في العراق ذهبوا لإيران، وتشبعوا بالمذهب الإيراني الشيعي، وأصبحوا امتدادا لشيعة إيران، ولأول مرة في تاريخ العراق يتولى رئاسة الوزراء فيها شيعي، ومن المعروف أنه من يحكم، لذلك يرى المنيسي أن العراق بذلك أصبحت رسميا ولاية شيعية تدين بالولاء لإيران».
متابعا: «إيران لن تترك العراق بأي حال مهما حدث، لذلك توقعت ما حدث من إيران عقب اندلاع التظاهرات، ولم أندهش من ردها بتحريك القوى الشيعية المتواجدة في العراق للرد على تلك التظاهرات، فهي ترى أن ما يحدث في العراق مجرد مكيدة من القوى التي تستمد قوتها من الولايات المتحدة لإضعاف دور إيران داخل الدولة»
أما مختار غباشي، نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والإستراتيجية، فقال: الفساد الإداري عم العراق منذ 2003 ومستمر حتى هذه اللحظة، ومن خرجوا جميعهم في الشوارع كانت هتافاتهم ضد الفساد باعتبار أن صانعي الفساد جزءا من النظام الحاكم ولم يتم محاسبتهم، ففي عهد نوري المالكي سقطت الموصل في يد داعش بسبب الفساد السياسي.
وفي عهد حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق تم اكتشاف أكثر من 100 مليار دولار مهدرة بين الجهات الأمنية داخل العراق، ولم يتم الكشف عن الفاعل الحقيقي، وقدمت أوراقًا تثبت وجود أشخاص متوفين وليس لهم صفة وتصرف لهم مرتبات من قبل الدولة، وأساس هذه المظاهرات تدني البنية التحتية لدولة يصل إنتاجها من البترول إلى 4 ملايين برميل في اليوم وأراضٍ خصبة ونهرين، وكانت في وقت من الأوقات أغنى دول العالم العربي، لكن سيطرة الأطراف الطائفية عليها وصل بها إلى ما هي عليه الآن.
وأضاف: بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية هي المستفيد الأول مما يحدث وكذلك إسرائيل، أما إيران فهي قلقة من أن تنقلب هذه المظاهرات ضدها باعتبار معظمها يحمل الشق الطائفي، ورغم وجود أطراف في الداخل تحاول تهدئة مثل كتلة سائرون وكتلة مقتدى الصدر، التي جمدت عملها في البرلمان بسبب أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حيال ما يحدث، إلا أن الحل الوحيد الذي من شأنه تهدئة الأوضاع في الشارع هو استقالة حكومة عادل عبد المهدي ولا حل آخر للأزمة.
على صعيد آخر يرى السفير أحمد القويسني مساعد وزير الخارجية الأسبق، أنه بالرغم من وجود عدم استقرار سياسي وإداري في البلاد، إلا أن إقالة الحكومة في هذا التوقيت ستفتح الباب واسعا لعودة التنظيمات الإرهابية، خاصة أنه هناك تقارير تؤكد على أن داعش أعاد تشكيل خلايا نامية، ويقوم بعمليات وسائل الإعلام لا تغطيها، فيقول في هذا الشأن: «نتساءل وبغض النظر عن الملاحظات وحجم الفساد في العراق ما هو البديل لعادل عبد المهدي، هل هناك وجه آخر بديل له يتحمل المسئولية ومقبولا من قبل كافة الأطياف العراقية؟!. أيضا الأوضاع الإقليمية كلها غير مستقرة، وبالتالي أعتقد أن الدول العربية والقوى الإقليمية ستحاول قدر الإمكان تخفيف الوضع وتهدئة الموقف والسعي نحو الإصلاحات بعد أن وصل ضحايا التظاهرات إلى 100 قتيل، فلا بد أن تساهم الدول الصديقة للعراق في إيقاف نزيف الدم هذا، وعلى الحكومة نفسها أن تساهم في ذلك وترضخ لمطالب الشعب بالإصلاح المالي والسياسي والإداري.
"نقلا عن العدد الورقي..."