رئيس التحرير
عصام كامل

ثورة الزعيم المؤجلة.. أفكار عبد الناصر الإصلاحية التي ماتت معه

الرئيس الراحل جمال
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

لم يكن كابوس 5 يونيو 1967 مؤثرًا على أحد مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، صاحب مشروع وحدة الأمة العربية والسبب الرئيسي في الانتفاخ العربي غير المبرر أحيانًا في مواجهة الكيان الصهيوني، حتى وقعت الفاجعة وانهار كل شيء وتبددت الأحلام وبدأت الأمة تفكر في استرداد العريش وشرم الشيخ بدلا من التخطيط لغزو تل أبيب واستعادة القدس.


وتحول عبد الناصر بعد صفعة الهزيمة مباشرة إلى شخص آخر انكشفت أمامه حقيقة نظامه الذي وصفه في حديث مع رفاق الحكم بـ"المتعفن" وبدا كالذي يستكشف نفسه ونظامه من جديد، وجمعته برفاق الحكم اجتماعات اللجنة المركزية العامة للاتحاد الاشتراكي العربي، والتي ظهرت في سجلاتها التي وثقها الكاتب الصحفي مصطفى بكري في كتاب هزيمة الهزيمة، وعدد من الصحف المصرية، والمحبين للزعيم، التحولات التي طرأت على جمال بعد الهزيمة وجعلته يتطرق إلى أفكار كجدوى الإدارة الرأسمالية وضرورة المعارضة في إصلاح النظام، وهو ما لم يكن مطروحا داخل رأس عبد الناصر من قبل.

"أنا مش متشائم أنا متفائل.. هنعدي إن شاء الله ربنا ادانا درس.. في رأيي سننتصر إن شاء الله"، بهذه الجملة عبر جمال عبد الناصر عن نظرته للأمور في مصر خلال اجتماع مجلس الوزراء في 20 يونيو 1967 أي بعد قرابة أسبوعين من تدمير إسرائيل للجيش المصري واحتلالها سيناء.

أختيار ناصر تعبير "ربنا ادانا درس" يدلل على أن هناك خوفا كبيرا تسلل إلى نفس الرئيس الذي ظن الناس في نظامه القوة المفرطة وصورته الصحف في مصر ومحيطها العربي بهرقل الذي يحمل أحلام أمته على كتفيه، قبل أن تنكشف حقيقة الأمور، بل إن هذا التعبير يمهد لما سيقوله جمال في الاجتماعات اللاحقة والتي تظهر التحول الكبير في العقيدة السياسية للزعيم الأهم والأكثر أثرا في تاريخ المنطقة العربية خلال القرن العشرين.

في اجتماع اللجنة المركزية العامة للاتحاد الاشتراكي العربي في 27 يونيو 1967 بات واضحا أن عقيدة سياسية جديدة تشكلت لدى عبد الناصر بخصوص النظام السياسي الواجب تشكيلة لضمان أمن البلاد في حالة اختفائه هو أو أي من وجوه نظام 23 يوليو، فقال ناصر خلال الاجتماع "إذا أردنا نعمل خير في البلد دي أقول لكم رأيي إننا نحرر انفسنا والبلد من الخوف ولا يمكن أن نعمل ده بإجراء ولا بكتابة ولا بقلم.. إذا كنا عايزين نضمن الأمن والسلام والطمأنينة في البلد نعمل معارضة".

وكشف عبد الناصر خلال الاجتماع تصوره لشكل المعارضة التي يرغب في تشكيلها، بأن تكون من داخل النظام اعتمادا على رفاق تنظيم الضباط الأحرار ومنهم عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين، وأبدى استعدادا للتنازل عن السلطة من خلال انتخابات يُطرح فيها فريقان على الناس والفائز يقود البلاد، وقال: "نجيب المعارضة نقول لهم، اتفضلوا اعملوا حزب وإحنا هنعمل حزب وإحنا عندنا - الاتحاد الاشتراكي - ورأيي مجلس الأمة كلام فارغ، وفي نوفمبر ندعو المجلس ونحله، ونطلع قانون إن فيه حزبين مش ثلاثة، ندخل الانتخابات في ديسمبر، إذا كسبوا الانتخابات يستلموا البلد.. نسلمها لهم هما من الثورة، كسبنا إحنا الانتخابات ييجوا هما في المعارضة، وبنعمل قانون ونشتغل كحزب ونخلص".

وأضاف عبد الناصر جملة تعبر عن وجه آخر لعقيدته السياسية التي تمسك بها منذ يوليو 1952 وحتى يونيو 1967، فأعلن أنه ضد نظام الحزب الواحد لأنه تعبير عن ديكتاتورية طبقة أو ديكتاتورية حاكم، وهو ما سينبني عليه فيما بعد وجهات نظره الاقتصادية التي سيبوح بها في الاجتماعات وهي مغايرة للقناعات التي طالما طبقها خلال حكمه لمصر.

وفي اجتماع آخر بتاريخ 3 أغسطس بدا على ناصر تيقنه بأن ليس في العمر أكثر مما ذهب وقال إنه لا يتوقع العيش حتى سن الـ 60، وأكد لرفاقه رغبته في أن يؤسس نظام يضمن تداول السلطة بين فئة من المثقفين وأصحاب الرؤى، وذلك على خلفية حديثه عن رغبة المشير عبد الحكيم عامر تعيين شمس بدران رئيسا للجمهورية بعد تنحي عبد الناصر وتحفظات الأخير على قدرات شمس بدران المحدودة جدا من وجهة نظره، لدرجة تندره على ثقافته الضعيفة بأنه لا يعرف قصة يهوذا والمسيح.

في اجتماع آخر يوم 30 يونيو 1967 ضمن اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ينقلب الرئيس جمال عبد الناصر على فكرة الإدارة الاشتراكية للمؤسسات الاقتصادية ودولة موظفي القطاع العام، ويصارح وزراءه وقيادات الاتحاد الاشتراكي الذي كان يمثل سيف السلطة في ترسيخ أفكار النظام السياسية والاقتصادية اجتماعيا، "أن الإدارة الرأس مالية للمؤسسات هي الإدارة الناجحة وأنه يجب أن نتبع أسلوب تعيين الشخص الصحيح وغير السليم يمشي، وأن النظام الرأس مالي معروف ويقوم على أن كل واحد ماشي كويس قاعد في الشغل اما إذا كان مش ماشي كويس بيمشي وبدون هذا الموضوع لن تستقيم الأمور".

محاولات عبد الناصر لإصلاح نظامه الذي دخل اختبار العمر بعد نكسة 1967 جعلته ينظر خلال اجتماعاته في الآلية البوليسية لاختيار قيادات القطاع العام، والتي تعتمد على ضباط المباحث في وزارة الداخلية وأعضاء الاتحاد الاشتراكي الذي كان له سلطات واسعة خلال تلك الفترة.

وفي اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي في 26 ديسمبر 1967 أثار المهندس محمود يونس رئيس هيئة قناة السويس ورأس حربة خطة تأميمها عام 1956 مسألة العراقيل الأمنية والمخابراتية التي تواجه تعيين قيادات جديدة في أي من المؤسسات.

ويؤكد يونس خلال الاجتماع أن الأساليب القديمة للجهات الأمنية بجمع المعلومات عن الأشخاص المراد تعيينهم في الوظائف القيادية من خلال سؤال "المكوجي" و"البواب" المتواجدين في منطقة سكن المرشحين هو أمر غير احترافي ويؤدي إلى إحراجهم، ودلل على غياب الاحترافية داخل النظام الأمني بأن بعض الجهات ما زالت تسأل عن سلوكه شخصيا إلى الآن من خلال استطلاع آراء العمال والحرفيين في محيط سكنه.

عبد الناصر لم يفوت الأمر وشكك في نظام جمع المعلومات عن المرشحين للوظائف القيادية وقال "كلام المباحث أنا شفته في عملية الانتخابات ولم أقتنع! ليه بقى؟ هم عندهم ثلاث حاجات.. يعاقر الخمر، يعاشر النساء، مش فاهم إيه؛ أربع شعارات كده بهذا الشكل، تبص تلاقى كل واحد يعاقر الخمر يعاشر النساء، كلام الحقيقة غير واقعى أبدا!".

الدكتور حسام عيسى المفكر الناصري، قال إن ادعاء الرئيس عبد الناصر رغبته في إقامة معارضة وتداول السلطة هو أمر لا يتناسب مع عقليته الذي لا تؤمن بالنظام الديمقراطي بشكل عام، ولكنه كان يؤمن بالعدل الاجتماعي والتحرر الوطني، وأعطى للفقراء الكثير خلال فترة حكمه، لكن في كل الأحوال لا يمكن النظر لناصر كرجل ديمقراطي من خلال ما قاله خلال اجتماعات مجلس الوزراء واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي.

وكشف أن عبد الناصر لم يكن صاحب أيدولوجية محددة فهو لا يمكن حسبانه على التيار اليساري، وأن توجهه إلى النموذج الاشتراكي السوفيتي كان بناء على معدلات النمو التي حققها الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية في روسيا، حيث وصلت المعدلات إلى 12% نموا سنويا، وهى أكبر من أي نموذج آخر لذلك قرر نقل هذا النموذج إلى مصر والاعتماد على الصناعة.

وأضاف أن طرح الرئيس عمل معارضة قوية بعد نكسة يونيو 1967 هو أمر مثير للسخرية في مضمونة الذي يعتمد على تأسيس معارضة من داخل النظام يمكن التحكم فيها وهذا أمر بعيد عن السياسة والديمقراطية بشكل عام وهو ما أنتج فيما بعد نماذج سياسية مشوهة في عصر السادات وفكرة المنابر الثلاثة وسياسات الحزب الوطني في عصر مبارك، ولفت إلى أن غضب عبد الناصر من تقارير الأجهزة الأمنية لم يمنعه من الاستعانة بها بكل الأشكال بسبب عدم إيمانه في الأصل بالديمقراطية.

عمرو صابح الباحث في تاريخ جمال عبد الناصر، يحمل وجهة نظر مختلفة لتفنيد الأفكار التي طرحها الرئيس الأسبق في اجتماعات ما بعد نكسة 1967، فيقول إن أفكارا كإصلاح بنية النظام السياسي وتشكيل معارضة، التي طرحها الرئيس عبد الناصر جاءت في مرحلة مراجعة لأفكاره بعد فترة الهزيمة مباشرة، ووصل لذروة تلك المرحلة بتصريحه في أحد الاجتماعات أن النظام وصل لمرحلة التعفن.

يضيف صابح أن أهم ما شغل عبد الناصر خلال تلك الفترة هو إعادة هيكلة قيادة القوات المسلحة باعتبارها أهم المؤسسات التي خرجت عن سيطرته بعد ما سمي بالانقلاب الصامت عام 1962 وخلاف عبد الناصر الشهير مع عبد الحكيم عامر ورغبته في تنحية الأخير من قيادة الجيش.

يعتقد صابح أن تفكير عبد الناصر في إصلاح النظام السياسي وتحرير المناخ العام بشكل أو بآخر والتخلي عن القبضة الأمنية كان متوهجا في المرحلة التالية مباشرة لنكسة 1967 لكن سرعان ما تراجع عبد الناصر عن الأفكار التي صرح بها في اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي بسبب تظاهرات فبراير ونوفمبر 1968 التي جعلت النظام يقلق من هامش الحرية الذي تكون بعد النكسة وبالتالي عاد النظام إلى عادته مرة أخرى بالاعتماد على الأمن والمباحث لضمان وجوده، واعتقد أن هذا وهو أكثر سلبيات نظام جمال عبد الناصر الذي شعر دائما بالخوف من الانقلابات العسكرية وتسبب ذلك في وجود المشير عبد الحكيم عامر على رأس الجيش لضمان أمن النظام.

ويتابع "عبد الناصر صرح بشكل علني في بيان 30 مارس 1968 الشهير، بعزمه إعادة هيكلة النظام سياسيا بعمل انتخابات من قاع إلى قمة النظام، والانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية بكتابة دستور جديد وإنشاء محكمة دستورية عليا لكن كل هذا تأجل بسبب خشية النظام من حراك الشارع عام 1968، ومعه تأجلت كل أفكار عبد الناصر التي ذكرها في الاجتماعات المشار إليها والتي كانت في مرحلة تالية لـ5 يونيو 1967 لكن في مراحل لاحقة قبل وفاته لم يذكر تلك الأفكار مرة أخرى".
الجريدة الرسمية