رئيس التحرير
عصام كامل

أن تكون "سنباطيا"!


قامت "أم كلثوم" بأداء قصيدة "أبى فراس الحمدانى" الشهيرة (أراك عصى الدمع) ثلاث مرات وعلى مدى ثلاثة عقود كاملة، لملحنين متنوعين، وفى نظرى ووفقا لرأى أغلبية النقاد وجمهور الست قبلنا جميعا، لم تنجح في إحداها وذلك لأن الكلمات لم تجد ملحنا يعبر عنها موسيقيا ويقنع المستمعين بأن هذا شعر قابل للغنى والتغزل في معشوقة..


فلم يفلح لحن "الحامولى" أو "زكريا أحمد" أو حتى "القصبجى" في نقل تلك الحالة الخاصة التي تفرضها كلمات القصيدة من تجبر المحبوب وعزة نفس المحب، وهنا يأتى المبدع المتفرد موسيقيا الأستاذ "رياض السنباطى" ليتحفنا بأفضل تعبير موسيقى ممكن عن تلك الحالة، فبداية بالجملة اللحنية التمهيدية والتي استخدم فيها آلة البيانو الغربية الوترية ذات المساحات الصوتية العريضة تماما كصوت أم كلثوم، يقدم السنباطى الحالة الخاصة المتصارعة بين المحب غير الزاهد في محبوبته المتعجرفة المتعالية وبين عشقه الذي لا يهوى به لحالة من الذل أبدا..

وكأنه يتقدم عارضا حبه بشكل يشى بكثير من العمق والهيبة المتمثلة في نغمات البيانو في طبقاته الحادة الصارخة في غير صخب، والتي لم يجرؤ أي ملحن سابق أو لاحق على "أم كلثوم" في إقناعها بوجودها في تختها التقليدى، ولكن "السنباطى" يبقى دوما متفردا وقادرا على ترويض "أم كلثوم" العنيدة تماما، كما روض "السنباطى" بموسيقاه الموقف العصى من المحبوبة شديدة الصلف والكبرياء!

ترويض موسيقى من "رياض" أقنع "أم كلثوم" بغناء القصيدة لرابع مرة، ذلك رغم عدم توفيقها في الثلاث السابقات عليها منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، ترويض قوامه الإبداع والفن الجميل والصدق الذي يفرض نفسه على كل من يستمع له، وهذا ما نحتاجه في حياتنا بشكل عام، فلكل مسألة إبداع خاص لها في إقناع العامة بها، فإن كنت تريد إقناع شعب ما بجدوى موقف سياسي أو اقتصادى وهو الأهم على الإطلاق في حياة الشعوب، يجب عليك أن تكون مبدعا، أو مثل "أم كلثوم" تستعين بمبدع من نوعية "رياض السنباطى"..

متميز، قادر على الإقناع وإيصال الرسالة بسلاسة والتأثير الكاريزمى العام، حتى يدفع الجمهور دفعا للتصفيق بحرارة شديدة، رغم أن الأمر كله غناء.. مجرد غناء أي شىء ترفيهى روحانى يستطيع الشعب الاستغناء عنه، فهو ليس خبزا أو علاجا أو مسكنا فمال بالك وإن كان الأمر كذلك!

والحكومات يجب أن يكون لديها وزراء مبدعين يشبهون "السنباطى" في انضباطهم اللحنى، فلا يجب أن يكون هناك وزير يرقص تانجوو يرتدى زيا غريبا عن من يمثلهم مثلا وسط جمهور أغلبه يسكن تحت الربع في أزقة وحوارى، ويحلم بأن يكون مقنعا لهم، ربما كان مقنعا لمن يشاركونه نفس المستوى من الرفاهية والمصالح، يجب أن تغير الحكومات من نغمتها ولا تكرر نفس الأداء اللحنى فيجد الجمهور الغناء مسخ وغير مقنع وممل ويصعب الدفاع عنه حتى وإن أتيت بكل فرق التلحين والغناء.

يجب إيجاد "سنباطى" جديد وإن كانت القصيدة عصية على القبول، يمكن أن تغير في كلماتها أو تبدلها بقصيدة أخرى، فالسياسات ليست نصا مقدسا والألحان كثيرة والرؤى الاقتصادية مرنة والاشتراكية التي أسُقطت بليل في بلدان نجحت في غيرها وما زالت، والرأسمالية الفجة تهوى دوما بمن يمتطيها لأنها لا تقبل إلا بقلة تمنحهم بريقها الزائف وخيراتها الضنينة وتمقت الأغلبية وتحقر من شأنها!

من يؤيد أي نظام في العالم يجب عليه أن يكون أيضا "سنباطيا" مخلصا في نصحه للنظام، فإن رآه يميل يمينا وينسى من حوله، تحتم عليه أن يوجه قبلته لليسار ويعظه دوما بالتدثر بالمساكين والالتحاف بالفقراء والتقوى بالضعفاء فهم خير معين له!
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية