رئيس التحرير
عصام كامل

"ما ينفع الناس".. حكاية أول شيف مصري متخصص في مخبوزات مرضى حساسية القمح

فيتو

صيف العام قبل الماضي، بدأ جسد "سارة شعبان" الطفلة ذات الثلاث سنوات آنذاك، يهزل شيئا فشيئا، يميل لونه إلى الإصفرار، يعتصر بطنها ألما لا يحتمل كلما أقبلت على رغيف الفينو تقضم منه ما شاء لها، كما يفعل عادة الأطفال في العمر ذاته، تتقيأ كلما أكلت بعد دقائق قليلة، لتصاب بعدها بإسهال مزمن دفع الأم لاستشارة الطبيب، الذي أكد بعد عدد من الفحوصات والتحاليل أن سارة مصابة بمرض يعرف بـ "حساسية القمح"، أو تحسس الجهاز الهضمي من المأكولات المصنوعة من القمح، فكانت الفاجعة الكبرى.


كيف لطفلة أن تحرم من أطعمتها المحببة بين ليلة وضحاها. حتى جاءت الصدفة التي غيرت حياة الأم وابنتها، كان الأمر أشبه بطوق النجاة الذي تعلقتا به، منشور على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" يعلن عن وجود مخبز يديره شخص يدعى الشيف "حمدي حسين" يتخصص في صناعة المخبوزات الخالية من الجلوتين، وهي المادة المكونة للقمح والسبب الأساسي في ظهور أعراض الحساسية بقوة: "لقيت نفسي جاية هنا وبقيت كل أسبوع أجي اشتري لها من الشيف حلويات وعيش".


يعد مرض حساسية القمح كغيره من الحساسيات المختلفة، عبئا ثقيلا على كأهل المريض ومن يحيطون به، فأعراض المرض التي تتمثل في وجود احمرار جلدي وحبوب وتقرح العين وصعوبة التنفس والإسهال الدائم وفي بعض الأحيان نقصان ملحوظ في الوزن، لا تتوقف على تناول القمح ومشتقاته من الأطعمة التي تحتوي على بروتين القمح كالشوفان والشعير وبروتين الجلوتين، ولكنها تظهر أيضا عند التعرض غير المباشر لها أو استنشاقها، ليصبح الأمر أشبه بـ "اللعنة" التي تطارد المريض أينما حلت قدماه.

ووفقا لإحصائيات أخيرة خرج بها معهد البحوث الزراعية، فإن عدد مصابي حساسية القمح ومشتقاته في مصر ارتفع إلى 900 ألف حالة بين أطفال وبالغين.

"كان الموضوع أشبه بمعجزة إن فتح مصنع كامل يصنع أكثر من 80 نوع من المخبوزات من دقيق النشا أو الأرز أو نشا البطاطس، فقط لمرضى حساسية القمح"، يتحدث حمدي صاحب أول مصنع لإنتاج المخبوزات "الجلوتين فري"، لمرضى حساسية القمح في مصر.


في مخبز الأب الذي كان يقع في أحد شوارع حي الحلمية بالقاهرة، وتحديدا في عام 1990، حينما أتم حمدي عامه العشرين، كان على موعد مع الوقوف للمرة الأولى رأسا أمام آنية الدقيق الممتزج بالمياه والخمائر، ينهل من بحر والده الذي كان ضمن أوائل الخبازين الذين ادخلوا أصنافا جديدة على منتجاتهم، فلم يعد يقتصر الأمر على الخبز الفينو والبقسماط وغيرهما، " كان عندنا مخبز لمخبوزات القمح العادية، اتعلمت الصنعة كلها من الألف للياء، علمني إزاي أقدر أطلع كافة المخبوزات وبطعم جيد ومقبول، وده كان سبب إني أقدر اعمل منتجات الجلوتين فري أو المنتجات الخالية من القمح، لأنه لو أنا مش شيف مخبوزات محترف مكنتش هقدر أعمل الشغل ده أنا اتربيت على شغل الأفران البلدي. لحد ما قررت اسيب الشغل مع والدي بعد ما انتشرت الصناعة في حينا واتوظف في الحكومة".

ووقع الاختيار عليه ليكون أحد أفراد طاقم العاملين بمطبخ الوراثة بمستشفى الدمرداش التابعة لكلية الطب بجامعة عين شمس، وهو المعني بصناعة الأطعمة الخاصة بمرضى التمثيل الغذائي، أو أصحاب متلازمة داون ممن يحظر عليهم تناول الأطعمة التي تحتوي على بروتين الدقيق أو البروتينات الأخرى.


"اشتغلت في قسم التغذية في مستشفى الدمرداش سنة 2008، في مطبخ الوراثة عرفت بعد كدة إنه فيه مرض اسمه حساسية القمح ويصاب به أناس أسوياء مش أصحاب متلازمة داون فقط، وبيكون أكلهم معظمه بالنشا فقط. نجحت إني اعمل مخبوزات طعمها جيد ومتعدد، بعد ما كانت المنتجات مقتصرة على العيش البلدي والفينو، أنا اللي أدخلت على مطبخ جامعة عين شمس، طبقت المهنة واللي اتعلمته على القمح منزوع الجلوتين أو من النشا، كنت بنوع وأطلع جديد"، أصبح الصديق المحبب لدى أطفال المستشفى المصابين بمرض حساسية القمح الذين يأتون مرتين في الأسبوع من محافظات مختلفة للحصول على وجبتهم الأساسية من خبز بلدي أو فينو، فيجدوا أمامهم البسكويت والحلوى الشرقية والغربية والبيتي فور والمكرونة، جميعها أشياء منزوعة الجلوتين والخوف معا.

"كنت أرى الأطفال نفسهم ياكلوا أكلات عادية زي أهلهم، اللي كنت بشوفه في الدمرداش مكنوش بيعملوا غير المخبوزات التقليدية فقط مكنش عندهم الخبرة الكافية إنهم يطلعوا أكبر تشكيل من المخبوزات ويلقى استحسان من المرضى، فقلت ليه محطش كل خبراتي في إني أطوع قطعة عجين النشا دي في صناعة كافة أنواع الحلويات، كان الأجانب بييجوا يزورونا ويشوفوا المخبوزات بتاعتنا، الأطفال فرحوا حالتهم النفسية اتحسنت، ومن يومها قررت أمشي في طريق إنتاج منتجات خاصة بيا برة".


بحلول عام 2014، نجح حمدي في تدريب وصقل موهبة شابين من العاملين بمطبخ المستشفى ليتوليا مهام العمل، بعد أن عقد العزم على الرحيل واللجوء إلى العمل الحر، فتطلعاته وحلمه الصغير لم يسعهما المطبخ الصغير بإمكاناته المتواضعة، " تركت المستشفى لأني كان نفسي أحقق كل أحلامي وأحط كل خبرتي في مطبخ الوراثة في المستشفى لكن الظروف المادية للمستشفى مسمحتش وكنا مقيدين بكميات معينة فقط والشغل التقليدي العادي".

لم يترك حمدي المطبخ إلا بعد أن تشرب أسباب وأعراض وطرق تجنب تمدد حساسية القمح في جسد المريض، كان يندس بين الأطباء يستمع بنهم إلى ما يقولونه حول كل جديد يتصل بالمرض، يذهب إلى بيته بعد انتهاء يوم العمل، فيفتح هاتفه المحمول، يفتش بين محركات البحث عن الدراسات الحديثة التي أجريت على مرض حساسية القمح، "كنت شايف إني محتاج اعرف أكتر عنه علشان أطلع منتج مظبوط وآمن، اكتسبت معلومات قيمة من الشقين دول أهلوني للتفرد بالعمل في هذا المجال الدقيق والشاق".


البداية كانت فوق "طبلية خشبية" في مطبخ منزله بمساكن السعودية في منطقة الزيتون، كميات أقل من تلك التي كانت تنتج في مطبخ المستشفى، شيف في نهاية العقد الرابع من عمره، بات همه الأكبر أن يأكل كل مريض حساسية القمح كل ما يحب ويشتهي، "بدأت أطبق الوصفات بتاعتي والمقادير اللي كنت شغال بيها في الدمرداش وأحسن فيها، وبعد ما عملت كام صنف دشنت صفحة على فيس بوك وانشر عليها المنتجات، ولقيت رد فعل ممتاز من المرضى، فقررت أخذ مصنع صغير لوحدي وسعت شوية وكترت من الكمية اللي شغال عليها، وده كان في مصر شيء جديد تمام على مصر لأنه الناس كانت بتضطر تشتري الدقيق منزوع الجلوتين المستورد وسعره بيتعدى الـ 100 جنيه".

انهالت الدعوات عليه.. البعض يطلق عليه المنقذ وفخر المصريين.. دعوات أم اعتصر قلبها الما بينما ترى طفلها الذي لم يتعد عمره الست سنوات يشتهي الحلوى والمعجنات ولا تستطيع أمعاؤه الصغيرة تحملها.


"كنت بفرح وأنا شايف الفرحة في عيون الأطفال بعد ما أكلوا من عندي وبدأت أعراض المرض تتلاشى تدريجيا. لما لقيت الطلبات زادت وعايزين كل اللي اتحرموا منه يلاقوه، بدأت أعمل من صنفين لأربعة حتى وصلت في الوقت الحالي إلى 70 صنف".. راقت الفكرة لصديق طفولته تاجر الأحذية الجلدية "أحمد شاهين، أراد أن يشارك برأس المال والإدارة، "عملنا فرع الزيتون والمعادي، وأصبح لدينا فريق عمل نحو 17 شيف شغالين معانا في المصنع واعتمدنا الشركة بشكل رسمي، وأصبحنا أول شركة في مصر متخصصة في صناعة المنتجات الخالية من الجلوتين، وبأسعار تبدأ من عشرين جنيه وليس 50 و100 كما هو الحال في سلاسل المحال الكبرى في البلد، أنا كل همي أوصل للمواطن ذي الدخل المتوسط".
الجريدة الرسمية