الدعاء المؤجل من خطبة "الشعراوي" في "عرفات"
بصوتٍ خاشع مُتهدِّجٍ، وبارتجالٍ مُنظم مُرتب، وإتقانٍ مُدهشٍ للغة العربية، ألقى إمامُ الدُّعاة إلى اللهِ، الشيخ "محمد متولى الشعراوى"، خطبة "عرفات"، قبل 43 عامًا ميلاديًا، و44 عامًا هجرياُ، وكان عمره يومئذ 65 عامًا، وإن بدا، رحمه اللهُ، لمن يعيدُ الاستماع إلى تسجيلٍ مَرئىٍّ للخطبة، دون ذلك بكثير.
الخطبة التي زادتْ قليلًا عن خمسينَ دقيقة، وتضمنتْ أربعة آلاف ومائة وعشرين كلمة، اشتملتْ على فضائلَ عدة، وشمائلَ شتَّى، وهذه سِمة لا تفارقُ خُطبَ وعظاتِ ودروسَ وكلماتِ الإمام، رحمه الله، والتي تتعاظمُ قيمتُها، بتعاقبِ السنينَ.
"الشعراوى"، الذي يُعتبرُ الوحيدَ من خارج المملكة العربية السعودية خطيبًا ليوم "عرفة"، استهلًّ خطبته النادرة مُبسملًا وحامدًا وشاكرًا للهِ على أنعمه، ومُصليًا على النبى محمد صلى اللهُ عليه وسلم.
ثم أردفَ سريعًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريكَ لبيك، إنَّ الحمدَ والنعمة لك والملكَ لا شريكَ لك "، مُضيفًا: "شعارُ هذا اليوم، ونشيدُ هذه الساحة وتِردادُ هذا الركن: لبيك اللهم لبيك، ومن أولى بالتلبية منك يا ربَّ العالمين، وقد خلقتَ الخلق بقدرتك، وأمددتهم بقيوميتك، وأنعمتَ عليهم بدينك؟ فلا لبيك إلا لك".
وأوضح: "سبحانك يا رب، خصصتَ هذا الركنَ العظيمَ من حجِّ بيتك، والوقوفِ في ساحة رحمتك، بما لم تُميزْ به ركنًا من الأركان. خصصته بشيء حكمتَ فيه بما يكون إلى أن تقومَ الساعة، كلفتَ بالصلاة، وكلفتَ بالزكاة، وكلفتَ بالصيام، وتركتَ العبيدَ أخيارًا فيما يختارونَ من طاعة تقُربهم إليك أو ابتعاد يُبعدهم عنك، ولكنك سبحانك حكمتَ في هذا الركن، أنه لا يكونُ حين يُؤذًّن بالحجِّ، إلا أنْ يأتي القومُ رجالًا ورُكبانًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ"، مُتابعًا: "اللهم إنك قد قلتَ: "وأذِّنْ"، فأذَّنَ، وقلتَ: "يأتوكَ"، فأتى القومُ "من كلِّ فجٍّ عميقٍ “.
ثمَّ يتضرعُ إلى الله مُرددًا: "يا رحمة اللهِ، يا رضوانَ الله، يا تجلياتِ اللهِ، هؤلاء خلقُ اللهِ، فاهبطى عليهم بالإشراق، وتنزَّلي عليهم بالصفاء، وأرجعيهم مأجورينَ مغفورًا لهم مجبورين مُجابين الدعاء، لهم ولآلِهم ولأزواجهم ولذرياتهم ولأحبابهم ولجميع المؤمنين والمؤمنات".
ثم يُناجى اللهَ بصوتٍ لا يغيبُ عنه الخشوعُ والتبتلُ مُرددًا: "اللهم إنك قد أمرتنا أن نحجَّ بيتك، فامتثلنا، وقلنا: لبيك، وأمرتنا أن نقفَ في ساحةِ رحمتك، فقلنا: لبيك، فكما لبيَّنا دعوتك يا ربي، لبِّ ضراعاتنا، واغفرْ زلاتنا وارحمنا، وارضَ عنا. اللهم ما مضى من ذنوبنا فاغفره، وما نستقبلُ من حياةٍ، فاسترْ عنا ذنوبها"..
وفى موضعٍ ثانٍ.. يبتهلُ خطيبُ "عرفات" إلى اللهِ قائلًا: "جئنا يا ربِّ كما وعدتَ؛ لنشهدَ منافعَ، وقد شهدنا. والحمدُ للهِ، شهدنا كيف يُطبَّقُ الإيمانُ.. وكيف يُطبقُ الإسلامُ، وكيف يعيشُ المؤمنُ في منهج ربه شهرًا من الزمن أو أكثرَ أو أقلَّ، فيجدُ في نفسه صفاءً، وفي روحه إشراقًا، وفي بدنه خِفَّة للعبادة". مُضيفًا: "سبحانك يا ربي، شهدنا أنك الرحمنُ الرحيمُ، وشهدنا أنك حين تبتلى بشرٍّ في أعراف الناس، لا شرَّ منك أبدًا. إنه الخيرُ المُطلقُ، ولكنه شرٌّ بمقاييس خلقك، حين تبتلى الإنسانَ بما يشقُّ عليه ويصعبُ على نفسه. لا تريدُ من عبدك إلا أنْ يرضى بقضائك، وأن يستسلمَ لحُكمك. وحين يرضى مُخلصًا بيقينٍ بما قضيتَ، فترفع قضاءك عنه وتلطفَ به".
وفى موضعٍ ثالثٍ.. يجددُ الدعاءَ قائلًا على طريقته المُتفردة: "يا ربي.. إنها ساعة تجلتْ فيها رحمتك، ويوشكُ يومُ الرحمة أن تأفلَ شمسُه وأن يرجعَ عبيدُك بالمغفرة والرحمة، فنحنُ ننتهزُ هذه الفرصة، وندعوك يا رب، بما دعاك به آدمُ عليه السلامُ، وندعوك بما دعاك به إدريسُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به نوحُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به هودُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به صالحٌ عليه السلامُ..
وندعوك يا ربي بما دعاك به إبراهيمُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به لوطٌ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به إسماعيلُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به إسحقُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به يعقوبُ عليه السلامُ، وندعوك بما دعاك به يوسفُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به موسى عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به هارونُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به داوودُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به سليمانُ عليه السلام..
وندعوك يا ربي بما دعاك به أيوبُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به يونسُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به إلياسُ عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به ذو الكفل عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به زكريا عليه السلامُ، وندعوك يا ربي بما دعاك به يحيى عليه السلامُ".
مُردفًا: "ونختتم ما ندعوك به يا ربي بدعاء خير خلقك وسيد أنبيائك ورسلك، رحمة الله للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إلهي بجاهه عندك ومكانته لديك ومحبتك له، ومحبتك له، وبالسر الذي بينك وبينه، نسألك أن تصلي وتسلم عليه وعلى آله، وأن ترزقنا حبه وحب من يحبه وأن ترزقنا اتباعه والاقتداء بآدابه وسنته، وأن تسكب علينا ما سكبته عليه من نور ومن صفاء ومن خشية ومن حب، حتى نصبح ربانيين لا نصلح إلا لحضرتك".
ثم يُوجِّهُ خطيبُ "عرفات" حديثه إلى الحجيج ناصحًا:" نريدُ يا قوم ألا يكونَ ذاكَ شعارَ الحج فقط، قاصدًا التلبية، ولكننا نريد أن تكون "لبيك" شعارَ كلِّ حياتنا، كلِّ حركاتنا في الحياة شعارها: لبيك". مُختتمًا خطبته الفريدة والمُتفردة بقوله: "وإلى اللقاء في موسمٍ آخرَ، إن شاء الله، والمسلمونَ في نصر، والمؤمنون في تجمُّع، والحاكمون مُقبلون على منهج الله، واللهُ يرعاكم.. والسلامُ عليكم ورحمة الله"!!
ولا شك أن الشطر الأخير من دعاء "الشعراوي" في خطبته التاريخية هو: "والمسلمونَ في نصر، والمؤمنون في تجمُّع، والحاكمون مُقبلون على منهج الله، لا يتم تحقيقه على أرض الواقع؛ فلا المسلمون في نصر ولا المؤمنون في تجمع ولا يزال بعض حكامهم متفرقين ولا تزال الفوضي والفرقة تضرب بجذورها في عدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية ولا يزال الاقتتال مسيطرا على مساحات كبيرة من الأمة العربية.. ولن تتحقق هذه الأمنية التي يرددها الخطباء على المنابر حتى يتحقق مراد الله الوارد في قوله تعالي: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".