أهواكِ يا كعبة الأنوار "2"
لبيـَّكَ رَبِّي وإنْ لم أكنْ بينَ الزحَام مُلبيـًا
لبيـَّك رَبِّي وإنْ لم أكنْ بينَ الحجيج ساعيًا
لبيَّـك رَبِّي وإنْ لم أكنْ بينَ عبادك داعيًا
لبيـَّك ربي وإنْ لم أكنْ بينَ الصفوف مُصليًا
مشاهدُ روحية وجمالية يُجسدُها الحجاج الذين جاءوا من كل فج عميق، ليشهدوا منافعَ لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معدودات، حتى أنَّ اللهَ يُباهى بهم ملائكته، كما جاءَ في الحديثِ الذي رواهُ "أحمدُ" في "مُسنده"، و"ابن حِبَّانَ" في "صحيحِه"، و"الحاكمُ" في "مُستدركِه"، عن "أبي هريرة"، رضى الله عنه مرفوعًا: "إنَّ اللهَ يُباهي بأهل عرفات أهلَ السماءِ، فيقولُ لهم: انظروا إلى عبادي، جاءوني شُعثًا غُبرًا".
وفى يوم "عرفة"، الذي يحتفلُ به المسلمونَ في مشارق الأرض ومغاربها، بعدَ غدٍ، تَتنزلُ الرَّحماتُ، وتُغفرُ الذنوبُ، كما جاء في الحديثِ الذي رواهُ الإمامُ "مُسلمٌ" في "صحيحِه" عن عائشةَ، رضي اللهُ عنها، أنَّ رسولَ اللهِ، صلى اللهُ عليه وسلمَ، قالَ: "ما مِنْ يومٍ أكثرَ أنْ يُعتِقَ اللهُ فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، إنه ليُدني، ثم يُباهي بهم الملائكة".
وإنْ كانتْ "ليلةُ القدر" خيرَ الليالى وأعظمَها قدرًا، فإنَّ يومَ "عرفة" هو أفضلُ الأيام وأعلاها شأنًا، عندَ اللهِ تعالى، كما جاءَ في الحديثِ الذي رواهُ "ابن خُزيمة" و"ابنُ حِبَّانَ" و"البزَّارُ" و"أبو يَعلى" و"البيهقيُّ" عن "جابرٍ"، رضي اللهُ عنه، مرفوعًا أيضًا: "ما من يومٍ أفضلَ عندَ اللهِ مِنْ يوم عَرفة، ينـزلُ اللهُ تعالى إلى سماء الدنيا، فيُباهي بأهل الأرض أهلَ السماء، فيقولُ: انظروا إلى عبادي، جاءوني شُعثًا غُبرًا ضاجِّين، جاءوا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، يرجونَ رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يومٌ أكثرُ عِتقًا من النار، من يوم عرفة".
ويتَنزلُ اللهُ، تعالى سُبحانه عن التشبيه والتمثيل، إلى السماء الدنيا في هذا اليوم العظيم، كما جاء في رواية "أنس"، رضى اللهُ عنه، عن الرسول الكريم: "وأما وقوفكَ عشية عرفة، فإنَّ اللهَ يهبطُ إلى سماء الدنيا، ثم يُباهي بكم الملائكة، فيقولُ: هؤلاءِ عبادي جاءوني شُعثًا سُفعًا، يرجونَ رحمتي ومغفرتي؛ فلو كانتْ ذنوبُكم كعدَدِ الرمل، وكعددِ القطر، وكزَبدِ البحر، لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، ولمن شفعتُم له".
وفى روايةٍ ثانيةٍ: "وأمَّا وقوفك بعرفة، فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى ينـزلُ إلى سماءِ الدنيا، فيُباهي بهم الملائكة، فيقولُ: هؤلاءِ عبادي جاءوا شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميق، يرجونَ رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروَني، فكيف لو رأوني؟ فلو كانَ عليك مثلُ رملٍ عالجٍ، أو مثلُ أيامِ الدنيا، أو مثلُ قطرِ السماء ذنوبًا، غسلها اللهُ عنك".
وتروى كتبُ الحديثِ الشريفِ أنَّ النبىَّ الكريمَ وقفَ بـ "عرفات"، وكادتْ الشمسُ أن تؤوبَ، فقال: "يا بلالُ أنصتْ ليَ الناسَ"، أي اجعلهم يصمتونَ، فقام "بلالٌ"، فقال: "أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فأنصتَ الناسُ، فقالَ: "معاشرَ الناس، أتاني جبريلُ آنفًًا، فأقرأني من ربي السلامَ، وقالَ: إنَّ اللهَ غفرَ لأهلِ عرفات، وأهلِ المشعر، وضمنَ عنهم التبعاتِ"، فقامَ "عمرُ بن الخطاب"، رضي اللهُ عنه، فقال: يا رسولَ الله، هذا لنا خاصٌ؟، فقالَ: "هذا لكم، ولمن أتى بعدَكم إلى يوم القيامة"، فقالَ "عمرُ"، رضي اللهُ عنه: "كثُرَ خيرُ اللهِ وطابَ".
فاللَّهمَّ اغفرْ لحجاج بيتكَ الحرامِ، هذا العام، وأعدِهم إلى ديارِهم، كيومِ ولدتهم أمهاتُهم، واجعلْ حِجَّهم مبرورًا، وذنبهم مغفورًا، واكتبْ لمن لم يحظوا بأداءِ رُكن الإسلام الخامس، أداءَ الفريضة، في قادم الأعوام وأقربِها، ويسِّرْ لنا أمرَ زيارةِ البيتِ الحرامِ، وقبرِ الرسول الكريم، والطوافِ حولَ الكعبة المشرفة، ورجمِ أبليسَ، والارتواءِ مِنْ ماءِ "زمزمَ"..