صلاح حافظ يكتب: من وحي الفن
في مجلة التحرير عام 1953 كتب الكاتب الصحفى صلاح حافظ مقالا قال فيه: في بلدنا فلاح يغزل الصوف، ثم يشد خيوطه بين نخلتين وينسجها، وفى المحلة الكبرى آلات تغزل نفس الصوف ثم تشد خيوطه بين أسنانها وينسجها أيضا.
حين ترى هذين النسختين تعرف أن كليهما صوف، ولكنك تشترى ما تصنعه المحلة الكبرى، ولا تشترى ما يصنعه الفلاح.. دون أن يتهمك أحد أنك متعصب لأحد ضد الآخر.
غير إن الموسيقيين في مصر لا يحاولون أبدا أن يفهموا هذه الحقيقة، ولا يحبون أن يفهمها الآخرين، فهم حين يسمعونك تطالبهم بإنتاج موسيقى سيمفونية لا يترددون في اتهامك بالتعصب للغرب، والسعى وراء بدع لا تتفق مع الذوق المحلى ولا تعبر عن طابعنا القومى متجاهلين أن الموسيقى السيمفونية ليست إلا نفس الحانهم الحالية لكنها منسوجة بأسلوب آخر فيه خدمة وفن وثقافة.
كما أن صوف المصانع الكبرى هو نفسه صوف الفلاح المصرى منسوجا بأسلوب علمى ميكانيكى فيه خدمة وفن وثقافة ومهارة، لكن لماذا لا يريد الموسيقيون في مصر أن يعترفوا بذلك، ولماذا يخلطون بين المادة الخام للموسيقى وبين أسلوب معالجة هذه المادة الخام.
لماذا لا يفهمون أننا نطالبهم أن يستوردوا من الغرب آلة النسيج لا الصوف ولا القطن الذي ستنتجه هذه الآلة، لماذا لا يتذكرون مثلا أن نصف الموسيقى السيمفونية التي أبدعها تشايكوفيسكى، كورساكوف ليست إلا ألحان الفلاحين الروس موزعة على الأوركسترا توزيعا فنيا متقنا.
لماذا لنفس الأسباب التي ما زال الفلاح المصرى من أجلها ينسج الصوف بين نخلتين ثم يبيعه إلى الناس خشنا بدائيا لم تلمسه أبدا يد العلم أو الفن أو الثقافة.
كل الفرق بين هذا الفلاح وبين فنانينا الكبار هو أن الفلاح لا ينكر أبدا عجز يديه ولا يدعى أن نسيجه صوف ونسيج الآخرين كتان.