«استعادت بصر مئات العميان».. «فيتو» تحاور طبيبة قصر العيني «قاهرة الظلام»
حين أنهت الدكتورة رانيا صبحي أستاذ جراحة العيون، دراستها في كلية الطب جامعة القاهرة، كانت رغبتها الأولى التخصص في طب الأطفال، لكن شهرين فقط قضتهما في قسم الاستقبال بمستشفى أبوالريش غيرا مسار حياتها إلى الأبد، وجعلاها تختار التخصص في "طب وجراحة العيون" وتحديدا في جراحة القرنية.
"رانيا صبحي" المولودة لأبوين امتهنا الطب، ظهر اسمها بقوة في حالة "أشقاء قنا الثلاثة"، الذين ارتدت إليهم أبصارهم، بعد سنوات طويلة عاشوها في الظلام، بسبب ولادتهم بعيوب خلقية أدت إلى إصابتهم بالعمى، وفشل كثير من الأطباء في مساعدتهم على الإبصار من جديد، لكن "صبحي" التي درست جراحة القرنية في باريس كان لها رأي آخر:" في الأول لما شفت حالة الإخوات التلاتة بتوع قنا، ما كنتش حابة أعمل لهم العملية، التلاتة مولودين بعيوب خلقية بسبب زواج الأقارب، ونسبة إبصارهم من جديد كانت تبدو مهمة مستحيلة، بعد شوية تحاليل وأشعات قررت إنى أخوض التحدي ده، التلاتة كان عندهم "عتامة" و"مياه بيضاء" على العيون بسبب عدم علاجها في سن مبكرة، تسبب ذلك في فقدانهم البصر، ولأنهم ينتمون إلى أسرة فقيرة وأحوالهم المعيشية صعبة رضوا بالأمر الواقع، وبدءوا يتكيفون مع حياتهم، وحين بدأ الإعلام يتكلم عن قصتهم بدأت جمعيات خيرية تتواصل معهم وتعرض مساعدتهم في الكشف الطبي، أملا في استعادة نور الحياة، لكن جميع الأطباء الذين وقعوا الكشف عليهم أكدوا استحالة إبصارهم من جديد، وبفضل الله حين عرضت حالتهم عليا في القصر العيني وفقنى الله وعاد إليهم بصرهم جميعا".
تسترجع أستاذ جراحة العيون بطب قصر العيني تفاصيل حالة الأشقاء الثلاثة الذين كانوا من أصعب الحالات التي تعاملت معها طوال 20 عاما قضتها في علاج عيوب الإبصار :"كل واحد فيهم كانت حالته مختلفة عن التاني، جابر غير محمد غير عبدالله، ومن هنا قررت أبدأ بجابر اللى كانت حالة القرنية عنده أفضل من إخواته بكتير، ولا يمكن أبدا أقدر أوصف مدى سعادتى وهو داخل عليا بعد نجاح العملية، والبسمة مرسومة على وجهه وبيقولى :"انا شايفك يا دكتورة"، هذه واحدة من أسعد لحظات حياتي".
تُرجع "صبحي" أسباب ولادة الأطفال بعيوب خُلقية في العيون إلى زواج الأقارب:" أكبر مشكلة عندنا هنا في مصر بتتسبب في إصابة حديثى الولادة بعيوب خلقية في النظر هي زواج الأقارب وخصوصا في الأرياف والصعيد، هناك عادات وتقاليد تدفع أبناء العمومة للزواج من بعضهم البعض وهذا أمر في غاية الخطورة وينتج عنه كوارث طبية للأبناء".
لا تتذكر طبيبة قصر العيني عدد العمليات التي أجرتها، وساهمت في عودة البصر لمرضاها لكن بعضها ما زال عالقا في ذهنها لا يغادرها أبدا : " أجريت مئات العمليات، أذكر جيدا القصة التي جعلتني اختار التخصص بشكل دقيق، عندما كنت "نائب" في قصر العيني جاءت سيدة خمسينية تعاني من مياه بيضاء وعتامة على عينيها تمنعها من الرؤية، تجرأت وأخذت خطوة إجراء عملية لها، وبالفعل نجحت العملية، بعد فترة عادت لي السيدة مرة أخرى وأخبرتني أنها ذهبت للحج ورأت الكعبة بعينيها وتذكرتني ودعت لي، كان حدثا هاما للغاية في اختيار طريقي".
في نهاية التسعينيات شقت الطبيبة الشابة حياتها في عالم الطب، تحمل في داخلها أهدافا وأحلاما خاصة، تضع والدها الطبيب جراح مثلا يحتذى به، وسارت على دربه: "والدي لعب دورا مهما في اختياراتي دون أن يضغط على لتنفيذ أمر ما، في البداية كنت أريد أن أتخصص في رمد الأطفال، وقضيت فترة في مستشفى أبوالريش، لكنى لم أستطع تحمل ما رأيته من معاناة الأطفال وهم في عمر الزهور".
مرت الأيام سريعا، فازت "صبحي" بمنحة دراسية في فرنسا لمدة عام والعمل في أحد أكبر المستشفيات الفرنسية، كان الأمر أشبه بحلم مملوء بالتحديات والأهداف، تقول عن تلك الفترة: "بعد قضاء ثلاثة أيام في فرنسا جلست داخل غرفتي أبكي، فجأة أصبحت وحيدة لا عائلة لا أصدقاء لا معارف، لكني وضعت أمامي هدفا واضحا، أن أصبح طبيبة تمنح فرصة أخرى لمريض في رؤية الحياة بالألوان الطبيعية.".
أن تعمل امرأة في تخصص دقيق ومهم في مجتمع عربي تسيطر عليه النظرة الذكورية كان دافعا أكبر لأستاذة جراحة العيون للاستمرار في تحديها للجميع: "اصطدمت في البداية لأن المجتمع ككل مؤمن أن المرأة غير قادرة على التخصص في الجراحة بشكل عام، بعض المرضى كانوا يسألونني باستنكار هل انتي التي ستقوم بإجراء العملية؟، وعندما أجيبهم بنعم يبدءون سيلا من الأسئلة حول خبرتي والعمليات التي أجريتها، لكن على أي حال بعد عملي لنحو عشرين عاما بات الأمر أقل من عادي".
تروي الطبيبة إحدى الحوادث الصعبة التي تركت أثرا بالغا في نفسها:" كانت هناك حالة صعبة لطفل أصيب بتهتك في القرنية ، كان يسير مع والدته في الشارع وأثناء مروره بجانب أحد الأشخاص الحاملين لجركن به مياه نار قفزت نقطة مياه إلى عيني الطفل ليصاب بالعمى، كان الأمر كارثة حقيقية، طفل لم يتعدى الـ9 سنوات يرى الحياة والألوان والضوء ويلهو مع أصدقائه تحول إلى كفيف بشكل أو بآخر، حاولت معه وعاد إليه جزء من بصره لكن إهمال أسرته وعدم متابعتهم لحالته بشكل مستمر تسبب في انتكاسة جديدة، وعاد الطفل إلى الظلام مرة أخرى، هذه واحدة من الحالات التي كلما تذكرتها أشعر بالحزن ".
في أكثر من موقف ظهرت الطبيبة بقوة تحسد عليها، تتذكر جيدا يوم 29 يناير 2011 بعد يوم واحد من تفاقم الأحداث في جمعة الغضب، رفض أطباء رجال الذهاب إلى العمل لكنها كان لها رأي آخر: "كنت أتابع الأخبار من المنزل، وشعرت أن دوري يتمثل في الذهاب إلى عملي بقصر العيني، دخلت الاستقبال في الثالثة عصرا وخرجت في اليوم التالى، أجريت العديد من العمليات في ذلك اليوم، وقتها كان زملائي الرجال يبحثون عن مخرج آمن لهم، ووجدوني أقف أمامهم وأبلغهم بضرورة عدم تركهم لعملهم واستقبال الجرحى لمعالجتهم، استقبلنا يومها مئات الحالات المصابة بطلقات خرطوش في أعينهم، وأغلبهم كانت حالاتهم خطرة للغاية لكننا تعاملنا معهم ونجحنا في علاجهم".
مسيرة ليست بالقصيرة قضتها "رانيا" داخل غرف العمليات، تجد متعتها الأولى في إعادة النور إلى عيون مرضاها، تشعر أن رسالتها في الحياة كبيرة لذا تتمسك بها بكل قوة ومثابرة، تحكي رانيا: "هل هناك شيء أكثر جمالا من هذا، أن تمنح فرصة أخرى إلى طفل في مقتبل العمر في أن يرى الحياة"، تصمت وتلمع عينيها: "بالتأكيد ليس هناك أكثر متعة وجمال".
رهبة غرفة العمليات لا علاقة لها بمدى الخبرة والثقة في قلب الطبيب، ترى "صبحي" أن الطبيب مهما تعددت العمليات الجراحية التي نفذها بنجاح إلا أن الرهبة والخوف من دخول غرفة العمليات وأن إنسانا يحمل الطبيب هم إعادة النور إلى عينيه أمر جلل:" حتى يومنا هذا ما زلت أدلف إلى غرفة العمليات والرهبة بداخلي".
تؤمن "صبحي" بفلسفة خاصة في تعاملها مع المرضى، فهي ترى أن الطبيب لا يقف دوره عند إجراء العملية، لكن بناء علاقة ثقة مع المريض ومتابعة لسنوات بعد إجراء العملية كيف يتحول المريض إلى فرد من الأسرة، في بعض الأحيان كانت تفاجئ بزيارات من مرضى لشكرها على ما قدمته لهم.
"النساء أكثر راحة من الرجال داخل غرف العمليات، المرأة أكثر تحملا وتنفيذا للأوامر" هكذا تقول صبحي بعد خبرة طويلة في إجراء عمليات تصحيح الإبصار والقرنية.