رئيس التحرير
عصام كامل

حياتنا الآن: فيلق الجرابيع !


أسهل شيء أن نرد التردي الاجتماعي والديني، بينهما السقوط الأخلاقى العارم الآخذ بشرايين البلد، إلى علامات يوم القيامة الصغرى، وبعدها سقطة مدوية أخرى، تحت أي تصنيف آخر لا أعلمه، فنهوى بالتفسير إلى أنها القاصمة، وأنها العلامة الحاسمة على قرب وقوع الساعة.. يعنى علامة من العلامات الكبرى.


في ال١٥ سنة الأخيرة يقوم المصريون برصد أمرين من فوق المنابر: أهلة رمضان، وعلامات يوم القيامة، وبينهما، ولمدة ١٢ شهرا يتبادلون الكلمات المملة التي فقدت معناها: كل سنة وأنت طيب.. كل عام وأنتم بخير.

العبارتان الأخيرتان هاتان انتقل مدلولهما من خانة المباركة إلى خانة الجباية. فالذي يفسح لك الطريق يقولها لك ليقبض منك! والذي يفتح لك الباب يقولها ليقبض منك، والذي يقضي لك حقا في مصلحة حكومية يقولها ليقبض منك، والسايس الذي يشير لك بالخروج الآمن عبر الطريق، وكان اختفى وقت الركنة الأولى، يقولها ليقبض منك!

صارت كل سنة وانت طيب نزيفا مستمرا لجيبك وجيبي.. المشكلة أن الدم كله نفد.. في عروقنا ونفد من عند هؤلاء الأباعد الذين فقدوا حياءهم وصار التسول تحت ستار البلطجة أو غطاء دينى عملا يحقق دخلا كبيرا، يبرر له تعبه ووقفته في الشوارع محتلا رصيفا اعتبره منطقة امتيازه.

أنت تحفظ ماء وجهك وحياءك الاجتماعى وكرامتك بطلوع الروح، بل وتطفح الدم عملا وتعبا ولا تجنى إلا القليل تستر به حياة أسرتك.. وهؤلاء وضعوا جيبك نصب أعينهم، من ساعة خروجك من بيتك إلى حين عودتك إليه!

يبيعون لك كلمة أخرى فقدت مدلولها:
- نهارك فل يا باشا.. وسع للباشا.. تعال هنا ياباشا... أيوه هنا سعادتك.. صح يا باشا.. الكبير كبير يا باشا.. الله الله عليك يا كبير!

لقد حصلت على لقب باشا. ولقب كبير يا كبير.. منحك نصاب ضائع لقب الباشوية. هو يعرف أنه يحتال على معايشه، وأنت تعرف أنه يخادعك ويمنحك كلمة صارت حقيرة لفرط تداولها. تسحب الخمسة جنيهات فيطالعها بامتعاض ثم يتفحصك يا باشا باحتقار ويحسبن عليك.. ولسان حاله يقول: "بقى تاخد الباشوية بخمسة جنيه... عملناك باشا وانت متساويش خمسة جنيه"!

ويشيح بوجهه وقد سكب في صدرك عصارة احتقاره لك.. فتثور أعصابك وتود لو نزلت تلكمه وتؤدبه، لكن لا يجوز لمن حمل الباشوية من جربوع أن ينزل لمستوى الجرابيع.. ثم إن انتهيت منه فماذا ستفعل مع المحطة التالية من الجرابيع والبلطجية ؟ هل ستظل في معارك من لحظة خروجك إلى لحظة رجوعك؟ كم خمسة جنيهات وعشرة جنيهات تنزفها في الشارع طول النهار يوميا!؟

وتسمع النداء التالى وتتسع عيناك دهشة: "صباح الفل يا دكتره!" و"ايوه يا دكتور. نهارك زي وشك الحلو يا ابوقلب طيب".

وما أنت بدكتور. فلا أنت بطبيب ولا عالم ولا مدرس بجامعة... لكن هذا النوع من الجرابيع أيضا يمنح الدرجات العلمية كما يشاء لمن يشاء وبأرخص الأسعار!

والحقيقة أن نصف مصر الآن دكاتره بالتفويض من الجرابيع والنصابين !

دون علم ودون تعب ودون رسائل ودون مناقشات ودون إجازات لجان ودون إشراف. بل بلغت الفهلوة مداها المهين حين يطلق جربوع على نفسه أنه دكتور... فينطلق وراءه كدابو الزفة ليرددوا اللقب العلمى.. ويتبادله الناس ويتكرر ويترسخ وهكذا يمكن القول أن شهادة الدكتوراه في مصر يمنحها فيلق الجرابيع!

كل هذه المهازل لا بد من وقفها بالردع القاطع.. لا يمكن ترك المجتمع يتفاعل في العفن، ويتبادل النصب والكذب والخداع.

لا يمكن أن يعيش أي مواطن محترم في بيئة حقيرة متردية دون أن يمرض بالضغط والقلب والسكر والسرطان.
ارحموا الشرفاء في هذا البلد.. وطبقوا القوانين الرادعة لمنع فوضى الألقاب ومحاسبة منتحليها وتأديب بلطجية أماكن الانتظار. التوعية نصح وارشاد. ثبت أن النصح طعام الشياطين اللذيذ.. يهضمونه ثم يتخلصون منه في الخرابات مع روثهم. الردع بالقانون ومعاقبة النصابين والافاقين ومستنزفى جيبوب الناس.. هو الحل الحاسم.

الجريدة الرسمية