رئيس التحرير
عصام كامل

فوضى الجنازات وحرمة الموتى


نحن بلد له تقاليد عريقة في تقديس الآخرة، بنى الأهرامات لدفن الموتى، وجعل للموت هيبة وعظة، وأسقط اَي خلاف بمجرد انتقال الروح لخالقها، ويلاحَظ أن الإنسان يفقد حتى اسمَه بمجرد موته، فيقال "المرحوم" و"الجثمان"، و"اذكروا محاسن موتاكم"، وكلها تقاليد مصرية ودينية كانت مرعية حتى وقت قريب.


وفي الثقافة المصرية جذر عميق يجعل للموت مهابة وجلالًا، فإذا وقع، فإن الناس يستشعرون معنى الموت، وكيف أنه ميلادٌ جديد لمعنى أعمق للحياة، وأن حكمة الخالق سبحانه استدعت أن يقبض ودائعه من الموتى إليه في وقت قدره هو في كل يوم وساعة؛ “كل يوم هو في شأن”، ليلفت محبيهم إلى أن الحياة مهما كان وهجها وجذبها وقوة حضورها فإنك لابد لك من يوم تغادر فيه، إذن عليك أن تهتم بهذا اليوم المُقَدَّر في علم الله سبحانه وتعالى.

العزاءُ وواجبُ التعزية فيمن يموت أهم لدى المصريين من حضور مناسبات الأفراح وأعياد الميلاد وغيرها، وحتى الذين بينهم تخاصم أو تدابر فإن الموت يجمعهم جميعًا في سرادقات العزاء، تكون التعزية سبيلًا للمراجعة وعودة الوئام والمحبة بين المتخاصمين، ويجتمع المصريون على سماع القرآن الكريم حين التعزية ويحسنون الثناء على المتوفى إذا كانت سيرته حسنة، ولو لم تكن كذلك فإنهم يقولون “أفضى إلى ما قدم”، أي انتهى أمره إلى ما قدم من عمل حسن أو سيئ، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذا ورد في بعض الآثار النهي عن سب الأموات.

وكان قد تزامن مع ذيوع الظاهرة السلفية مسألة الحكم على الناس بالجنة والنار، كما تزامن مع ثورات الربيع العربي وظهور الخلافات السياسية بين التيارات المختلفة موضوع الشماتة في الموتى ووقوع الموت بهم أو بأنصارهم، كأنَّ قدر الله بموت أحد يكون مجاملة لفريق في مواجهة الآخر دون أن يدركوا أن الموت كأسٌ وكل الناس شاربُه، وأن القبر بابٌ وكل الناس داخله، وهذا تلاعبٌ في مجال لا يجوز التلاعب به أو التشفي فيه أو إعلان الشماتة فيمن يقع به، وجلالُ الموت أكبر من الاشتغال بمن مات، وعظمة الموت حالة أكبر من أن ننصرف عن دروسها إلى الصغائر حول الميت ومصيره الأخروي، وأين سيكون؛ في الجنة أو النار، الموت يحدث ليلفتك إلى نفسك ولينبهك إلى مصيرك الفردي حين تأتي الله وحدك فردًا دون أحد من العالمين.

وقمة الانحطاط الإنساني السخرية من الموت، وما جرى في جنازة الفيشاوي يدعو للقلق ويثير القلق، وليست هناك أي علاقة بين حرية التعبير والغلظة والفجاجة، وفي عالم صار فيه كل البشر يحملون كاميرات، ويملكون حق النشر، أصبحت أحزان الناس ولحظات تأثرهم وانفعالاتهم عرضة للنشر، شأن كل شيء. 

وما أن يُتوفى أحد المشاهير أو قريب له حتى تتسابق الكاميرات والتليفونات لتلتقط الصور للحظات انفعالهم أو حزنهم ونشرها لتصبح خبرًا وسبقًا على شبكات التواصل، تحت مانشيت شهير هو "انهيار فلان في وداع زوجته" أو "انهيار فلانة في وداع أمها" أو "انهيار آخر في وداع والده"، وهذا ليس سبقًا صحفيًّا، وليس إبداعًا مهنيًّا، ولا تجلي في اختيار اللحظة، ولا الجملة ولا العبارة.. هو فقط انتهاك للخصوصية، وعدم احترام لمشاعر الناس، واستهانةٌ بحرمة الموت.

ناهيكم عن "مدعي التعزية" الذين يتسابقون للظهور أمام الكاميرات في تلك اللحظات، وسرعان ما يفتحون أجهزة المحمول على المواقع الصحفية للتأكد من أنه تم نشر صورهم أو أسمائهم ليقوموا بإرسالها لأهلهم وأصدقائهم، ظنًا منهم أنهم هكذا أصبحوا من نجوم المجتمع، وانضموا لصفوة المشاهير.. لقد حولوا الموت لكرنفال، انتهاكًا لحرمته.

ووصل الأمرُ لسرقة جثمان الراحل محمد فوزي، خلال تشييع جثمانه، وتسبب الهرج والمرج في سقوط حاملي جثمان فاتن حمامة، بل إن المشيعين خطفوا جثمانَ السيدة أم كلثوم، وهكذا أحالت الفوضى تلك اللحظات المهيبة إلى مهزلةٍ تضافُ للمهازل المثيرة الكثيرة التي اقتحمت سلوكَ المصريين في السنوات الأخيرة.

الجريدة الرسمية