قايد السبسي ترك تونس على سكة متينة.. لكنْ هناك دواع للقلق!
تودع تونس رئيسها الراحل بجنازة تليق برجل دولة محنك. الباجي قايد السبسي ترك بلد ثورة الياسمين على سكة انتقال ديمقراطي نادر في محيط متقلب. لكن هنالك ما يبعث على القلق على مستقبل الأوضاع في البلد المغاربي الصغير.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي تعرفت شخصيا على الباجي قايد السبسي، كان ذلك في منزل صديق مشترك هو مولاي مصطفى العلوي قيدوم الصحفيين المغاربة، مدير صحيفة "الأسبوع الصحفي".. كان قايد السبسي في تلك الفترة يجتاز مرحلة ظل في مسيرته السياسية الطويلة، بسبب غضب الرئيس الأسبق زين العابدين بن على وتوجسه منه، على غرار شخصيات عديدة أبعدها بن على من المشهد السياسي أو فرض عليها حصارا، لأنها فقط تتوفر على كاريزما أو آفاق للعب دور سياسي ما خارج دائرة مربع السلطة الذي كان يسيّجه بهواجس رجل الأمن.. فما بالك بالباجي قايد السبسي السياسي المعتق الخبير بدواليب السياسة التونسية الداخلية والخارجية منذ بدايات استقلالها، المخضرم رفيق درب باني دولة تونس الحديثة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
وكأن التاريخ كان يخبئ للباجي قايد السبسي من تلك الفترة العابرة في مسيرته السياسية، بأن يكون لها أثر حاسم في دوره مستقبلا، وتحديدا في واحدة من أزهى لحظات تاريخ تونس الحديث..فبعد الثورة سيكون الرجل على موعد مع التاريخ..وهو المحامي المنحدر من ضاحية سيدي بوسعيد العريقة، الذي يتميز بفطنة سياسية نادرة ومرونة وأناقة سياسية ورثها عما يُعرف في تونس بالنخب "البَلديَة" (أي نخب المدينة أو العاصمة) التي لم يخرج حكم قصر قرطاج إلا نادرا من نفوذها.
الباجي قايد السبسي شخصية نادرة في تونس بقدرته على أن يجسد ماضي الدولة التونسية ومستقبلها بعد الثورة. في شهر مارس من عام 2012، وعندما كان إسلاميو حزب النهضة وحلفاؤهم الليبراليون وعلى رأسهم الرئيس السابق المنصف المرزوقي لم يستيقظوا بعد من نشوة فوزهم الانتخابي في أول اقتراع بعد الثورة (أكتوبر 2011)، كشف قايد السبسي في حوار أجريته معه لـ DWعربية بمدينة كولونيا، بأنه يستعد لإطلاق مشروع سياسي جديد، سيطلق عليه لاحقا اسم حزب "نداء تونس"، شكك كثيرون في مستقبله ونعتوه بأنه "ثورة مضادة" وعودة للنظام القديم..لكن السياسي العجوز كسب الرهان بفوزه كأول رئيس تونسي منتخب بعد ثورة الشباب، وتمكن من قلب المعادلة ليحدث التوازن مع حزب النهضة والتوافق مع زعيمها راشد الغنوشي، ويصل إلى سدة الحكم بقصر قرطاج.
توفي قايد السبسي بضعة أشهر فقط قبل انتهاء ولايته الرئاسية، وترك حصيلة يغلب الرصيد الإيجابي فيها على السلبي.
أولى الإيجابيات التي تحسب له، أن رحيله لم يترك فراغا دستوريا، بل إن المراقبين فوجئوا بالانتقال السلس والسريع للسلطة ساعات قليلة بعد وفاته، حيث تولى مباشرة رفيق دربه محمد الناصر رئيس البرلمان، منصب رئيس الجمهورية المؤقت، وأعلن عن موعد مبكر للانتخابات الرئاسية. وترك بلدا تنظم فيه انتخابات حرة ونزيهة.
ثانيا: تمكن بفضل حنكته في قيادة الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين سنة 2013 من نزع فتيل أزمة كانت ستقود البلاد إلى مواجهة مجهولة العواقب أو ربما تطور شبيه بالسيناريو المصري. كما حافظ بعد توليه الرئاسة على شعرة معاوية مع شريكه في الحكم حزب النهضة الإسلامي، ونآى بدوره كرجل دولة محنك ورئيس لكل التونسيين عن التورط في الحسابات السياسية الضيقة، الأمر الذي ساعد على تحقيق قدر نسبي من تقدم عملية الانتقال الديمقراطي.
ثالثا: يعترف كثير من المراقبين بأن قايد السبسي الرئيس، ورغم صلاحياته المحدودة دستوريا، نجح في رسم اختيارات واضحة وجريئة في مرحلة حساسة من تاريخ البلاد، فقد صمد في مواجهة ضربات الإرهاب وكافح من أجل تمتين التعاون مع الشركاء الأوروبيين والدوليين لتوفير الدعم الاقتصادي للديمقراطية الناشئة، وبأسلوب حيادي ذكي، يتلاءم مع حجم تونس الجيواستراتيجي، قطع الطريق على بعض الأطراف المحلية والإقليمية التي كانت تتربص لإسقاط الاستثناء الوحيد من بلدان "الربيع العربي".
رابعا: ورغم سياسة التوافق مع إسلاميي حزب النهضة، فقد تمسك بنهجه الليبرالي الحداثي الوفي لنهج بورقيبة، عبر دفاعه عن حقوق المرأة، وجرأته في طرح إصلاح تاريخي لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الميراث، وإصدار قانون يسمح للتونسيات المسلمات بالزواج من رجال غير مسلمين.
لكن على الجانب الآخر، تستيقظ تونس بعد وفاة الباجي قايد السبسي على بعض المؤشرات التي تبعث على القلق حول مستقبل البلاد الغامض.
المؤشر الأول: أنه ترك تونس على أبوب انتخابات حبلى بالمفاجآت وفي ظل قانون انتخابي قد يفسح المجال لجيل جديد من المغامرين السياسيين والشعبويين ورموز النظام القديم، في ظل عزوف الشباب عن السياسة ونظرته السلبية للأحزاب والطبقة السياسية.
المؤشر الثاني: أن فترة توليه الرئاسة وكذلك فترة رئاسته للحكومة الانتقالية الأولى مباشرة بعد الثورة (2011)، شهدت عودة ملحوظة لرموز وشبكات النفوذ المرتبطة بالنظام القديم. وبأنه لم يكن سندا قويا لعملية العدالة الانتقالية التي أشرفت عليها هيئة الحقيقة والكرامة برئاسة الحقوقية البارزة سهام بن سدرين. وهنالك من يعتبر ذلك نتيجة تجسيد قايد السبسي لنهج حكم استبدادي كان أحد اللاعبين الأساسيين فيه.
المؤشر الثالث: أنه بقدر ما ساهمت شخصيته الكاريزمية في قيادة مرحلة انتقالية صعبة وفي بناء حزب نداء تونس الذي أحدث به التوازن مع إسلاميي حزب النهضة، فقد كان لشيخوخته في الأمتار الأخيرة آثارا سلبية على تطور حزب نداء تونس إلى حزب مهيكل وقوي. إذ سقط الحزب في انقسامات بعدما ظهرت طموحات نجل الرئيس في وراثة الحكم من أبيه. وتسبب هذا الموضوع في صراع علني بين الرئيس قايد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد، كاد أن يؤدي إلى انهيار الائتلاف الحاكم.
المؤشر الرابع: إذا كان يُحسب للرئيس السبسي أنه صوت دولة القانون ووقف ضد محاولات الخروج عن المسار الديمقراطي، فإنها لم يكن حاسما في استكمال بناء مؤسسات دستورية حساسة وخصوصا المحكمة الدستورية، وترك مؤسسات ديمقراطية معرضة للاهتزازات من داخلها بسبب هيمنة الحسابات السياسية أو الحزبية الضيقة وضعف مردودية الاقتصاد على فئات اجتماعية ومناطق واسعة من البلاد، شاركت في الثورة أملا في تحسين أوضاعها.
المؤشر الخامس: أن تونس البلد الصغير جغرافيا وديمقراطيته الناشئة التي حظيت بإشادة المجتمع الدولي، ليست بمنآى عن التأثيرات السلبية ومخاطر الحرب الأهلية في الجارة ليبيا، وحالة المخاض السياسي العسير في الجارة والشقيقة الكبرى الجزائر. وهنالك من المتابعين من يخشى من محاولات بعض القوى الإقليمية التدخل لتخريب الانتقال الديمقراطي في تونس.
هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل