أبوة حين ميسرة
خلال الساعات القليلة الماضية؛ ثارت نائبات بالبرلمان على قرار مزعوم لوزير التعليم؛ بمنح الولاية التعليمية على طفل الشقاق للأب، لما فيه من مخالفة صريحة لنص المادة ٥٤ من قانون الطفل رقم ١٢٦ لسنة ٢٠٠٨.
وتقول المادة "تكون الولاية التعليمية على الطفل للحاضن؛ وعند الخلاف على ما يحقق مصلحة الطفل الفضلى يرفع أيا من ذوى الشأن الأمر إلى رئيس محكمة الأسرة بصفته قاضيًا للأمور المستعجلة الوقتية؛ ليصدر قراره بأمر على عريضة؛ دون المساس بحق الحاضن في الولاية التعليمية".
وربطت النائبات بين "مكتسب" للحاضن في هذا الخصوص؛ جرى تصويره قانونا على أنه حق للطفل يقرره قاضي الأمور الوقتية، وبين حقوق أخرى متأخرة عنه في المأكل والملبس والمسكن وغيرها؛ أهدرها آباء لأسباب مختلفة لا نقبل تبريرها بالتأكيد، في إشارة منهن إلى أن واقع الإنفاق وحده هو أول محددات منح الحاضن الولاية التعليمية على الطفل.
بداية؛ وحتى تستقيم الأمور لدى وعى نوابنا تشريعيا، فقانون كهذا مخالف للمواثيق الدولية التي تعد جزءا من التشريع الداخلى للدولة مقدم في تطبيقه بحسب نص المادة نص المادة ٩٣ من الدستور، فيما يلقب حقوقيون ومجالس أممية الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بأنه "رأس المواثيق".
وهنا في تفسير المادة ٢٦ من ذلك الإعلان ما يؤكد مخالفة القانون المصري لها؛ فتقول إنه "للآباء؛ على سبيل الأولوية؛ تحديد نوع التعليم الممنوح لأبنائهم"، ومن ثم صدرت الولى الطبيعي على النفس، وإن قصد واضعو هذه المادة "الأبوين معا" دون تمييز أو استبعاد؛ فلا يجوز للمشرع تصنيف أحدهما اجتماعيا ليحتفظ له بهذا الحق باعتباره حاضنا؛ أو يسلبه إياه باعتباره غير حاضن، وما الحضانة في تشريعاتنا المتفردة سوى بدعة تتزايد تداعياتها مع جعلها أبدية منفردة؛ حين منحها المشرع لطرف وحيد تلقائيا؛ مع تخيير الطفل بين أبويه عند بلوغه سن الخامسة عشرة من عمره.
دلالة عبقرية النص الدولي يؤكدها واقع التقاضي بشأن القرارات الوقتية القضائية؛ والتي يكفي لنساء الحصول عليها دون علم الأزواج أو وقوع طلاق أو تحقيق قضائي مسبق بشأن أسباب وافية لطلبهن الولاية التعليمية المنفردة على مستقبل الطفل، وقدرتهن على فرض الواقع التشريعي والقضائي والعملي بشأن استخدام الأوامر الوقتية في صراعات حياتية مع الأزواج واستغلال الأطفال فيها كأوراق ضغط لفرض شروط إذلال وإذعان عند الطلاق.
ومستوى ونوع التعليم الممنوح للأبناء؛ لا يمكن تقديره أولا بمعزل عن حكم الدستور ذاته بأن التعليم إلزامي وحق على الدولة توفيره للفرد طوال فترة طفولته، ولا يحق تقديره بمعزل عن المستوى الاقتصادى والاجتماعي للولى الطبيعي على النفس، وهى الولاية المعدومة لآباء بفعل قانون يستنكر الأبوة صراحة؛ ويستدعي سيرتها فقط في سطور عرائض دعاوى النفقات متى تيسر للنساء رفعها لدى المحاكم.
ناهيك عن أن غياب تطبيق التحقيق القضائي أمام "الأمور الوقتية" لا يجعل القاضى دائما على بينة بشأن أحوال الأب المادية؛ أو مطالعة أوراق رسمية غائبة تثبت علاقة الطفل بوالديه؛ وقت صدور الأمر الوقتي؛ وبأية كيانات تعليمية ومكانها ونوعها ومستواها؛ على اختلاف تصنيفات التعليم في مصر بين عام وتجريبي وخاص ودولي ولغات.
وتسبب القانون هنا في كارثة أكبر؛ تتأكد مع افتراضات جديدة لأحكام النفقات اللاحقة على قرارات التصنيف المنفرد لنوع ومستوى التعليم الممنوح للطفل؛ بمعزل عن إرادة وقدرة المحكوم عليه بتأدية تكلفة هذا التعليم، كما تسبب نفس التشريع في إذلال نساء ينفقن على مصروفات دراسية ويسددن تكاليفها المباشرة على الأقل سنويا؛ ثم يلاحقن الآباء قضائيا لاسترجاعها بتكلفة أعلى يسددنها لمحامين ومحاكم.
ولو أن المشرع استحدث رؤية شاملة لمفهوم الإنفاق الذي تكرر نسوة وناشطات الشكاية من غياب آباء عن دورهم فيه؛ لجعل الولاية التعليمية مشتركة بين الأبوين معا دون تمييز؛ وجعل فض النزاع حول مستقبل الطفل التعليمي بيد القاضي عبر سلطات مقيدة تضمن حمايته الإجرائية لحق الطفل في هذا الخصوص، ووضع الدولة ومؤسساتها التعليمية ذاتها في خصومة ومواجهة مباشرين مع "الممتنع" عن تأدية تلك النفقة أو تكلفة التعليم الممنوح للطفل؛ دون استباحة أموال النساء المطلقات في إجراءات تقاضي مطولة، ربما كان اللدد في الخصومة بينهن وبين المطلقين سببا في تعقيدها والتحايل على القضاء في معركة الغالب والمغلوب.
حقيقة الأمر؛ أن القرار المزعوم يثير الجدل مجددا؛ كسابقه الذي ينظم به وزير التعليم حق مسلوب اسمه "المتابعة التعليمية لغير الحاضن"، يدرك كثيرون استحالة تطبيقه بعيدا عن هوى جهة الإدارة؛ والموظفين التنفيذيين الملتزمين صراحة بالكتب الدورية بعيدا عن القرارات؛ وبالقرارات بعيدا عن القانون، وتلك آفة منتشرة بكثير من مؤسسات الدولة التي نتحدث عن إعادة هيكلتها وتأهيل موظفيها وتقليص عددهم منذ سنوات.
الحل الأسهل والأقل تكلفة في هذه المسألة هو تطبيق الولاية التعليمية المشتركة كجزء من قانون جديدة للرعاية المشتركة والمعايشة لأطفال الشقاق، ولا يمكن فهم الجدل المستحدث حول ولاية تعليمية مستنسخة من ولاية كاملة على الطفل سلبت من الآباء بقانون الرؤية العقيم؛ بمعزل عن تصريحات قيادات نسوية بأنه "لا عودة للوراء ولا تفريط في مكتسبات المطلقات"، ولا أظن أن تلك النغمة من الحوار حول مستقبل الطفل والأسرة يمكنها أن توقف شقاقا أو تعيد استقرارا مفقودا للمجتمع المتواجد أغلبه داخل محاكم الأسرة يوميا، في منازعات ومعارك "الغالب والمغلوب"؛ والتي لم تفلح التشريعات القاصرة معها في جلب حق أو درء مخاطر أو مجابهة مفاسد، لتظل الغلبة للقادرين على فرض الأمر الواقع وحدهم.