نسيم.. قلب الأسد الذي أذلَّ الموساد (2)
يكفي أن نعلم أن مصر كلها ذاقت الهزيمة إلا جهاز المخابرات.. كان هو المنتصر على أي مقياس منطقي.. فقد تكفل رجاله ونجومه، وعلى رأسهم "رفعت الجمال"، بمعرفة كل التفاصيل الدقيقة والخرائط لخطة الحرب العسكرية في 67.. وقاموا بإرسالها إلى القيادة السياسية.. ليفاجأ الأبطال بالنكسة وهم الذين كادوا يعطون قياداتهم أسماء الجنود والقادة من العدو، اسما اسما، لو طلبوا اليهم ذلك.. ولكن لعوامل كثيرة، ليس هذا مكانها، وقعت الواقعة، وانهزمت مصر هزيمة ساحقة كادت تصل بها لحافة اليأس، لولا توفيق الله والإرادة الفولاذية لأبنائها.
وبدأت معارك الاستنزاف.. وتزلزلت القوات الإسرائيلية بكم العمليات الصادمة التي انتقت عيون أسلحة ورجال العدو مع المعلومات الغزيرة التي تولاها الرجال في المخابرات العامة.. وذلك بعد تطهير الجهاز من قياداته المنحرفة.. وتولى "محمد نسيم" و"أمين هويدى" مسئولية إعادة الأمور إلى نصابها في جهاز المخابرات العامة عقب النكسة..
وأرسل "عبد الناصر"، الذي كاد الحزن يقتله، إلى "محمد نسيم"، وتواعدا بالحديث، وتقاسما الهمَّ سويًّا ليتذكر "عبد الناصر" مدى قدرة الأسد الرابض أمامه وذكره بإحدى عملياته التي لاقت شهرة واسعة على الرغم من سرية أعمال المخابرات في العادة.. وهي عملية "عبد الحميد السراج".
"على عبد الحميد السراج" ضابط جيش سورى معروف جدا.. فهو أحد الضباط الوطنيين النوابغ في سوريا والذي نأى بنفسه عن كم الانقلابات الرهيبة التي تتابعت في سوريا على يد "حسنى الزعيم"، و"أديب الشيشيكلى"، و"سامى الحناوى"، و"مصطفى حمدون"، وغيرهم من نجوم انقلابات سوريا العسكرية في الفترة التي أعقبت التحرير على يد "شكرى القوتلى".
وبدأ ظهور "عبد الحميد السراج" عقب التزامه بالخط الوطنى.. قبيل الوحدة مع سوريا.. ولمع اسمه في مصر عند "عبد الناصر" نفسه عقب قيامه بإسداء جميل العمر إلى مصر كلها.. وهو الجميل الذي لم تنسه له مصر وقيادتها.. فـ"عبد الحميد السراج" هو رجل المخابرات العسكرية السورى الذي تولى تدمير خطوط أنابيب البترول الممتدة من العراق عبر سوريا إلى سواحل البحر المتوسط، لتصب في الناقلات البريطانية لتغذية احتياجات بريطانيا من البترول، وكانت هذه العملية أثناء تعرض مصر للعدوان الثلاثي..
ليصبح تدمير خطوط أنابيب البترول الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وكان البعير هنا هو "أنتونى ايدن" رئيس الحكومة البريطانية والذي قدم استقالته عقب فشل عدوان السويس عام 56.
وكان طبيعيا، مع بدء الوحدة المصرية السورية عام 1959م، أن يلمع نجم "عبد الحميد السراج" أكثر وأكثر، فتدرج في السلطة حتى ولاه "عبد الناصر" نيابة القسم الشمالى وهو سوريا، ليصبح نائبا لرئيس الجمهورية السورية، ومع العلاقة الوثيقة التي جمعته ب"عبد الناصر" خاصة بعد عملية أنابيب البترول، وأيضا كشفه للمؤامرة التي استهدفت حياة "عبد الناصر" أثناء زيارته لسوريا عقب الوحدة..
من هذا كله تمكن "السراج" من السيطرة، ليس فقط على الأمن الداخلى كوزير للداخلية في الإقليم الشمالى، وتولى نيابة الرئاسة، بل سيطر أيضا على المخابرات وأجهزة الاقتصاد والتنظيم السياسي الوحيد، وهو الاتحاد الاشتراكى، ليصبح "السراج" أقوى رجل في سوريا بأكملها.
ولأن السلطة المطلقة مفسدة في كل الأحوال.. فقد تغلبت أجواء السلطة على نقاء "السراج".. لتتدهور الأمر أكثر وأكثر خاصة بعد فشل الوحدة المصرية السورية عام 1961 م.. وأتت نهاية "عبد الحميد السراج" على يد الانقلاب الذي أطاح به من قمة الحكم السورى.. عندما غفل عن ضابط الجيش السورى ومدير مكتب "عبد الحكيم عامر" الذي كان يتولى الرئاسة في الإقليم الشمالى للوحدة، وكان هذا الضابط هو "عبد الكريم النحلاوى"..
والذي استهان به "السراج" فتمكن "النحلاوى" من قيادة تنظيم سري في الجيش ضده وأطاح به وطرد "عبد الحكيم عامر" من سوريا في فضيحة مدوية.. ليتم اعتقال "السراج" في أبشع المعتقلات السورية، وهو "سجن المزة"، وكان وقع الصدمة مدمرا على "عبد الناصر".. إلا أنه سلم بالأمر الواقع، ونفض موضوع الوحدة مؤقتا وألقى بصره على مصير "السراج" المظلم في أيدى خصومه.
فـ"السراج" كان له أعداء في القوات المسلحة السورية وهى منفذة الانقلاب، وله عداوات رهيبة في لبنان نتيجة لتدخله في الشأن اللبنانى عندما اقتضت الظروف ذلك.. وله عداء قديم وثأر رهيب عند أصحاب مؤامرة اغتيال "عبد الناصر".. إضافة إلى عداء تقليدى من الموساد والمخابرات الأمريكية ورجالهما بلبنان.. ولتحقيق المستحيل وإنقاذه.. أرسل "عبد الناصر" إلى "محمد نسيم" وكلفه بإنقاذ "السراج" مهما كان الثمن..
وكلمة مهما كان الثمن في عرف العمل المخابراتى تعنى أنه لا مستحيل.. وسافر "نسيم" منفردا إلى لبنان لهذا الغرض.. وفى تلك اللحظة كان "السراج" يهرب من سجن "المزة" الرهيب بمعاونة عدد من ضباط الجيش الذين كانوا لا يزالون على ولائهم لـ"السراج".. وانتقل فيما يشبه المعجزة وعبر رحلة شاقة ووعرة إلى لبنان ليلقى خبر هروبه قد سبقه إلى لبنان وعشرات الذئاب الجائعة في انتظاره.. وكشف الموساد وجود "نسيم" في لبنان..
وكذلك كشفه اللبنانيون وغيرهم.. وتعرض في تلك المهمة فقط لتسع محاولات اغتيال نجا منها جميعا، كان آخرها عن طريق وضع قنبلة في أنبوب العادم بسيارته، وكانت تلك المحاولة غير قابلة للفشل لأن تلغيم السيارات كان من المعروف أنه يكون عن طريق تلغيم المقعد أو المحرك أو جسم السيارة السفلي.. أما وضع القنبلة في أنبوب العادم فهو الابتكار غير قابل للكشف.. ومع ذلك اكتشفها "نسيم".. وفشلت المحاولة.. بل ونجح في الخروج بـ"السراج" من لبنان إلى مصر وللأسف الشديد فكيفية الخروج ما زالت قيد السرية إلى يومنا هذا.. واستقر "السراج" في مصر آمنًا مطمئنًّا.
تذكر "عبد الناصر" قصة هذه العملية وهو يتحدث إلى "نسيم".. وكان "نسيم" يتساءل عن سبب استدعائه ليقول له "عبدالناصر" إنه رقد طريح الفراش بعد إعلان إسرائيل عن بدء عمليات التنقيب عن البترول في سيناء، في إشارة واضحة إلى أن سيناء أصبحت إسرائيلية لتذل القيادة المصرية.. وبرقت عينا "نسيم" غضبا.. وعاجله "عبدالناصر"، بالقول في مرارة: "الحفار يا نسيم".. فنهض "نسيم" واقفًا.. ورد في حزم: "أمرك يا سيادة الرئيس".. وبدأت عملية "الحاج".