في ذكراه التاسعة.. محاولات عبثية لتجميل "نصر أبو زيد"
عامًا وراءَ عام، تتلاشى ذكرى الأكاديمى والمُفكر المثير للجدل الدكتور "نصر أبو زيد"، الذي عاش بين عامى 1943 -2010، والذي استمدَّ شهرته من التجاوز والتطاول على النص القرآنى، لا أكثرَ من ذلك ولا أقلَّ، فكانَ أشبهَ بمن بالَ في بئر زمزمَ؛ حتى يعرفَه الناسُ.
ولولا هذه القضية المًفتعلة، والتي نفخ فيها كارهو الإسلام بالسليقة، وأرادوا أن يصنعوا من صاحبها بطلًا مغوارًا، ما سمع أحدٌ عن "أبو زيد"، ولأنهى رحلته الأكاديمية داخل كلية الآداب بجامعة القاهرة، مثل غيره، وما أكثرَهم، ومضى إلى حال سبيله، كما يمضون، ولأصبح نسيًا مَنسيًا.
في تسعينيات القرن الماضى.. قدم "أبو زيد"، الذي كان مُتخصصًا في "الدراسات الإسلامية وفقه اللغة العربية"، أبحاثه للحصول على درجة "الأستاذية"، إلا أنَّ اللجنة المُختصَّة، وكانت تضمُّ علماءَ أجلاءَ، رفضتها، واعتبرتْ تلك الأبحاثَ تنطوى على الإساءة المُتعمدة والمُباشرة إلى القرآن الكريم.
وتفاعلتْ القضية على خلفية دعم بعض المثقفين والعلمانيين لقضيته، وأثارتْ الرأى العام يومئذ، وأضحى "أبو زيد"، بين عشيةٍ وضُحاها، اسمًا معروفًا ورمزًا جديدًا للتنوير والتنويريين، فيما تمَّ وصمُ أعضاء اللجنة التي احتجَّتْ على أبحاثه، وكان من بينهم العالمُ الجليلُ الدكتور "عبد الصبور شاهين" – رحمه اللهُ- بالجهل والتطرف والرجعية وجميع المرادفات المشابهة، فهل كان "أبو زيد" صادقًا وجادًا ومُجددًا في أطروحاته، وهل أتى بما لم يأتِ به الأوائل، أم أنه أعاد إنتاج من سبقوه، وقال كلامًا مُكررًا؟
عن قُربٍ، وبُحكم مُعاصرتى لهذه الأزمة داخل أسوار جامعة القاهرة، فإنَّ "أبو زيد" كان رجلًا مُهذبًا خجولًا، ولم يكنْ فظاَ غليظًا، وكان من الممكن أن يتراجعَ عمَّا انتهى إليه في أبحاثه، لولا بؤرة الضوء الواسعة التي وجد نفسه داخلها على حين غفلة، وحالة الدعم المُفتعلة التي نشهدها، كلما نبحَ نابحٌ، أو نعقَ ناعقٌ، بحقِّ الإسلام وثوابته ومقدساته، ولو امتدَّ العمرُ به بعضُ أعوام، لفعل ما فعله الدكتور "طه حسين" عندما تراجع عن كثيرٍ من أفكاره ومعتقداته التي كان يتبناها ويدافع عنها باستماتةٍ.
على الرغم من فداحة أطروحات "نصر أبو زيد" بشأن القرآن الكريم إلا أنها لم تشكّل في جوهرها، برأى كثيرٍ من المُفكرين والكُتاب العُدول، طرحًا جديدًا؛ فهى كانت مجرد صورة من صور استخدام نظرية "التفسير الماركسى" في التعامل مع القرآن الكريم بما يُخضع النص، بحسب لفظه، للأيدولوجية، وهى هنا "الماركسية العلمية" التي آمن بها واتخذها منهجًا، إذ يقول: "إنَّ الدعوة للتحرُر من سلطة النصوص ومن مرجعيتها الشاملة ليس إلا دعوة لإطلاق العقل الإنسانى حرًا يتجادل مع الطبيعة ويتجادل مع الواقع الاجتماعى والإنسانى في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب".
إذن.. فإنَّ مشروع "أبو زيد" تجسَّدَ في وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحى والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآنى، فيصيرُ القرآنُ ماركسيًا ينطق باسم "ماركس" وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا، فيغير بذلك المفاهيم الرئيسية للقرآن ويلغى المعانى الحقيقية للسور والآيات ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن، وبينتها السنة النبوية!!
ومما كتبه "أبو زيد": "إنَّ فكرة كون القرآن نصًا تاريخيًا ليستْ جديدة ولا اختراعًا غربيًا، بل هي جزءٌ من الإسلام التقليدى؛ ففى القرن التاسع الميلادى اعتبر المعتزلة، أصحاب التوجه العقلى في الإسلام، القرآنَ «مخلوقًا»، وهو ما يعنى، ببساطة وبمعاييرنا المعاصرة، أنهم نظروا للقرآن باعتباره نصًّا تاريخيًا، وكانت هذه النظرة مثيرة للجدل وقتها مثلما هي الآن، وفى النهاية تمكن الفقهاء المتشددون من استبدال هذه النظرة بمفهوم معاكس، وهو أن القرآن هو كلام الله غير المخلوق".
ويتابع: "من الواقع تكوُّن النص (القرآن) ومن لغته وثقافته صِيغتْ مفاهيمُه، فالواقعُ هو الذي أنتج النص.. الواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا.. ولقد تشكل القرآنُ من خلال ثقافة شفاهية، وهذه الثقافة هي الفاعل والنص منفعل ومفعول.. فالنص القرآنى - في حقيقته وجوهره- مُنتجٌ ثقافىٌّ، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة فترة تزيد على العشرين عاما.. فهو «ديالكتيك» صاعد وليس «ديالكتيك» هابطاَ... والإيمان بوجود ميتافيزيقى سابق للنص يطمس هذه الحقيقة.. والفكر الرجعى في تيار الثقافة العربية هو الذي يحول النص من "نص لغوى" إلى شىء له قداسته"!!
والنصُّ القرآنىُّ، في اعتقاد "أبوزيد"، منظومة من مجموعة من النصوص، وهو يتشابهُ في تركيبته مع النص الشعرى، كما هو واضحٌ من المُعلقات الجاهلية مثلًا، والفارق بين القرآن وبين المُعلقة من هذه الزاوية المحددة، يتمثل في المدى الزمنى الذي استغرقه تكوُّن النص القرآنى، فهناك عناصرُ تشابُه بين النص القرآنى ونصوص الثقافة عامة، وبينه وبين النص الشعرى بصفة خاصة، وسياق مخاطبة النساء في القرآن المغاير لسياق مخاطبة الرجال هو انحياز منه لنصوص الصعاليك!
هذا بالنسبة للقرآن الكريم، أما النبوة والرسالة والوحى.. فإنها كانت، في رأيه، ظواهرَ إنسانية وثمرة لقوة المُخيلة الإنسانية، وليس فيها إعجاز ولا مرافقة للواقع وقوانينه، فالأنبياءُ مثلُ الشعراء والمُتصوفة مع فارق درجة المُخيلة فقط لا غير! كما كان يزعم أن: "إيماننا بإله له عرش وله قدسية وجند في السماء وله كتاب محفوظ ورسل يُدخلنا في باب الخرافة والأسطورة"!
استهدف "أبوزيد" بالنقد والتحليل، خطابَ الوحى، بجعله مادة لمعرفة نقدية عقلانية، شأنه بذلك شأنُ أي خطاب بشرى وأى إنتاج معرفى، مُستلهمًا موقف "طه حسين" الذي اعتبره "أبوزيد" الفدائى الأول في مقاومته للنظرة التقديسية إلى النصوص الدينية، مُتجاهلًا في الوقت ذاته تراجع عميد الأدب العربى عن كثير من تلك الأفكار المتطرفة في جوهرها ومضمونها!
اتهم صاحبُ كتاب "مفهوم النص" الوحىَّ بأنه "ليس له مصدر سماوى مقدس"، ونفى عنه "صفة الفوقية"، إنْ صحَّ التعبير، لأنه عنده خرج من الواقع ورجع إلى الواقع، وليس هناك إلا الواقع!، وهو ينص على ذلك في قوله:«فالواقع أولًا والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا»!! الواقع فقط!!
وتوهم "أبو زيد" أنه بهذه الاتهامات يستطيع أن ينزع صفة الوحى الإلهى عن القرآن، وظنَّ أنه قد حطمَ بذلك الأسطورة الدينية وكشف عن حقيقة رموزها، والرموز بزعم الماركسية هي: اللهُ، تعالى عن قوله، الملائكة، الجنُّ، الوحىُ، الغيبُ، اليومُ الآخر، وما إلى ذلك!
لم تقتصرْ افتراءاتُ "أبوزيد" عند هذا الحدِّ، وإن كان ذلك أشنعَها، لكنها شملتْ أيضا على الطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضى الله عنهم، حيثُ اتهمهم بتأليه النبىِّ، كما اتهمهم بأنهم ليسوا أطهاراَ ولا أخياراَ، كما طعنَ في أئمة المسلمين واتهمهم بالكذب مثل: الإمام "أبى حنيفة" رحمه اللهُ!!
هذا هو جوهرُ أفكار وكتابات "أبو زيد"، التي صنعتْ شهرته، وجعلته مرغوبًا في الأوساط الكارهة للإسلام، سواء في الداخل أو الخارج، ومن ثمَّ.. فإنَّ أية محاولات عبثية تستهدف تجميل هذه الأفكار وتلك الكتابات، وتُعظمُ من شأن صاحبها، محكومٌ عليها بالفشل الذريع.
ومن بين هذا المحاولات التي تزامنت مع ذكرى وفاته التاسعة، التي حلّت في الخامس من يوليو الجارى، ما كتبه مُغرمان مُتيمان بـ "أبو زيد"، حيثُ زعما أن "أبو زيد" كان يسعى إلى "إعادة القرآن إلى الحياة، وإعادة التفاعل مع النص وفق الاحتياجات الإنسانية، سالكًا في ذلك طرقًا تأويلية جديدة تختلف عن طرق القدماء في استنباط الأحكام الفقهية أو المعتقدات اللاهوتية".
ويضيفان: "تبنى "أبو زيد" لاهوت المعتزلة في مواجهة اللاهوت الأشعري، وفي مواجهة الهجمة الحنبلية الحرفية المُمولة من السعودية، فكان يُوظفُ التراثَ في مواجهة توظيف آخر للتراث"!!
وإجمالًا.. فإنه يمكنُ القول بأن "أبو زيد" لم يكنْ مفكرًا ولا مجددًا ولا تنويريًا جاداَ، ولكنه رجلٌ استهواه العبثُ بكل شئ، مع التأكيد على أنه لم يُنتجْ جديدًا، بل إنه أعاد إنتاج من سبقوه، ولم يكن يمانع من أن يتراجع عنه، لولا حالة "البروباجندا" التي أحاطت به، فظنَّ نفسه نسخة جديدة ومُعدَّلة من الفلاسفة القدماء، وهو لو يكن كذلك بطبيعة الحال، وهو كان يعلمُ ذلك، والذين آزروه ودعموه كانوا يُدركون ذلك، ولكنهم استخدموه "مخلب قط"؛ تحقيقًا لأغراض خبيثة، لم تعدْ خافية على أحدٍ..