وزارة "السناتر" للدروس الخصوصية
في الوقت الذي كانت الحكومة تتلقى فيه "تعليماتٍ عُليا" بضرورة الاهتمام بالمنظومة التعليمية والارتقاء بها، والاستعداد الجيد للعام الدراسى المقبل، كانت الصحف اليومية تتداول، نهاية الأسبوع المنقضي، تقاريرَ عن نشاط مراكز الدروس الخصوصية "السناتر" في عموم المحافظات واستعداداتها للموسم الدراسي الجديد!
التقاريرُ كانت مدعومة بـ"صورٍ كاشفةٍ ودالةٍ" لما وصل إليه التعليمُ في مصر. بدتْ أعداد الطلاب التي سعت إلى حجز أماكنَ لها "من الآن"، وقبل انطلاق العام الدراسى بأكثر من شهرين، هائلة وغفيرة!
المعلوماتُ، التي اشتملت عليها التقاريرُ، مُؤلمة ومُزعجة، سواء على صعيد الشروط والاختبارات التي تم وضعُها لاستقبال "الزبائن الجدد"، أو الأرقام الفلكية المطلوب من أولياء الأمور أن يدفعوها شهريًا عن يدٍ وهم صاغرون، بالإضافة إلى "العربون" المطلوب دفعُه مُقدمًا بـ "صورة عاجلة"، لضمان الجدية!
لو كان في مصرَ "حكومة رشيدة"، و"وزراء راشدون"، فإنَّ هذه التقاريرَ كانت تكفى لإقالتها وإقالتهم، أو على الأقل الوزير المختص. ولكنَّ هذا الوزير – تحديدًا- لا يستقيل، ويصرُّ على البقاء في منصبه، مهما اقترفتْ وزارته من أخطاء، ومهما شاب أداءها من خطايا. كيف يستقيلُ وزير يزعمُ، دونَ خجل، أن الدولَّ التي تتقدمُ على مصر في "جودة التعليم" بعشرات المراكز، مُنبهرة بالتجربة المصرية وبنجاحاتها التي تهبط بمصر إلى المراكز الدُّنيا في تصنيف "مؤشر جودة التعليم"؟!
مراكزُ تعليمية تعملُ دونَ ترخيص، وتمارسُ عملها في وضَح النهار، وتحتَ سمع وبصَر الأجهزة والجهات المعنية، وتفرضُ شروطها وأسعارَها على الطلاب وأولياء الأمور، في مشاهدَ هزليةٍ، تتجاوزُ خيالَ مؤلفى أفلام "الخيال العلمى" و"الغباء العلمى" أيضًا!
أرشيفُ الصحف الورقية والإلكترونية لا يزالُ يحتفظ بأخبارٍ وتقاريرَ، تم نشرُها خواتيم العام الماضى، عن الحملات المكثفة التي كانت تستهدف هذه المراكز، باعتبار عملها مُخالفًا للقانون، ولكن يبدو أنها كانتْ- مثل غيرها- للاستهلاك الإعلامي فقط، أو أنَّ هذه "السناتر" تحولتْ إلى "مافيا" و"مراكز قوى"، لا يستطيعُ أحدٌ المساسَ بها، خاصة إذا كان أصحابُها "المليونيراتُ" ممن يبذلون العطاءَ لمن يملكون أمرَ إغلاقها!
مشهدُ تزاحُم الطلاب أمام أبواب هذه "السناتر"، على النحو الذي تداولته الصحفُ، والذي يفوقُ مشاهدَ ازدحام الطلاب أمام كلية الشرطة والكليات العسكرية، لا يجبُ أن يمر مرور الكرام، على صُناع القرار، وأصحاب الأمر والنهى، ويجبُ أن يُعكِّر صفو الوزير الحالم الرومانسى، ويضعَه أمام مسؤولياته التي يتنصَّلُ منها دائمًا مع كلِّ إطلالةٍ تليفزيونيةٍ وصحفيةٍ، ويزعمُ أنه يتعرضُ لـ"مؤامرة كونية"، تستهدفُ "إجهاضَ" نجاحاته و"ذبحَ" إنجازاته التي لا يراها سواه!
في مثل هذه الحالة المعقدة، لا يكونُ إغلاقُ هذه المراكز هو الحلُّ؛ لأنَّ الطلاب لم يلجأوا إليها، إلا بعدما خابَ أملهم في مدارسهم التي تبيعُ لهم الوهمَ والوهنَ، ولكنَّ الحلَّ الذي ترفضُه الوزارة وتتعالى عليه، هو الإصلاحُ الحقيقىُّ والشامل للمنظومة التعليمية المسكونة بشتَّى صور الفساد وغياب الضمير، إصلاحًا لا يهتم بالشكليات على حساب المضمون والجوهر، إصلاحًا لا يستهدف خداع الرأى العام وتضليله بـ "تنظير" صار مكشوفًا ومفضوحًا للجميع.
وهذا الإصلاحُ يستحيل أنْ يتحققَ قبل أن يعترف القائمون على هذه المنظومة بأنهم فشلوا طوالَ السنوات الماضية، وأنهم عجزوا عن تقويم ما اعوجَّ منها وانحرف عن مساره، وأنَّ أفكارَهم وخططهم لا قيمة ولا أثر لها، ومن ثمَّ فإن الإصرارَ عليها يشبهُ الإصرارَ على تطبيب مريض السرطان بـ "مُسكِّنات الإنفلونزا"!
في أكتوبر الماضى.. نسبتْ الصحفُ تصريحًا إلى مصدر رفيع المستوى بالوزارة، وتم تداوله على نطاق واسع، شدَّدَ خلاله على أن وزارته وضعتْ خُطة مُحكمة لإغلاق جميع مراكز الدروس الخصوصية خلال شهرين فقط!! وها هما الشهران قد انقضيا، وانقضى معهما الموسمُ الدراسىُّ، وها هي المراكزُ تُخرجُ لسانها للجميع، وتستبق الوزارة نفسها، في الاستعداد للعام الدراسى الجديد، ليبقى الوضعُ على ما هو عليه، وعلى المتضرر أن يدعو الله بإصلاح حال التعليم في مصر.
فمن دون إرادة إلهية قاهرة وحاكمة، سوف تمضى الأمور من سيئ إلى أسوأ، وقد يأتى اليوم الذي لا تجدُ فيه الحكومة مَفرًا من إنشاء وزارة جديدة باسم: "وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى والسناتر"، ولأنه لا تربية ولا تعليمَ، فإنَّ اسمها الحقيقى سوف يكونُ: " وزارة السناتر للدروس الخصوصية"!