رئيس التحرير
عصام كامل

مواطن مُميكن!


لا تتعاملُ الحكوماتُ المصرية المُتعاقبة مع "المواطن الغلبان"، باعتباره إنسانًا "من لحم ودم"، ولكن بوصفه "مواطنًا مُميكنًا"، ليس من حقه الشكوى أو الأنينُ، مهما تعاظمتْ أعباؤه، وتفاقمتْ همومُه، وعليه أن يتعايشَ ويتعاطى مع أي ظروفٍ صعبةٍ حلَّتْ بساحته، أو تراكمتْ عليه.


تاريخُ المواطن المصري مع حكوماته السَّنية، لا تخطئه عينٌ، ولا يكذبه لسان، وسجله الشعراءُ والأدباءُ والفنانون، عبرَ العصور، تعظيمًا منهم لشأنه وقوة تحمُّله ما لا تطيقه الجبالُ الرواسى.

ها هو "صلاح جاهين" ينشدُ: عجبى عليكى يا مصر/ يا سابقة في كل عصر/ وإزاى نصدق وعدك/ وإنتى هاريانا فشر؟ تدى الغلابة بالصَّرمة/ وتدِّى الحرامية شُكر/ وف كل خطوة ضريبة/ مكنة وشغالة عصر/ وفلوسنا ملهاش قيمة/ تخلص في نص الشهر/ ما تحنِّى حبَّة علينا/ داحنا ولادك يا مصر/ مش كله ضرب في ضرب/ فين الشتيمة يا مصر؟!

وبالنظر إلى الفترة التي كُتبتْ فيها هذه الكلماتُ، حيثُ لم يكن الغلاء بلغ هذه القسوة، ولا الجشع وصل إلى هذه الدرجة، وكانت هناك طبقة متوسطة لم تتلاشَ بعدُ، فإنَّ المواطنَ المعاصرَ، يستحقُّ أن تُشيِّد له الحكومة له في كلِّ ميدان وشارع، تمثالًا للذكرى، حتى تتذكرَه الأجيالُ المقبلة بكل خير، أو بكل بؤس، بعدما صار مُميكنًا وفق أحدث النظم والموديلات، ميكنة لا تسمعُ معها ضجرًا ولا أنينًا، مهما تراكمتْ عليه الهمومُ والأعباءُ الثقالُ، أو هكذا تراهنُ الحكوماتُ.

دوامة تمضى بوتيرةٍ متسارعةٍ، لا تهدأ ولا تتوقفُ ولا تتململُ، يدورُ فيها هذا المواطن البائس، حيثُ لا قلب يحنو، ولا يد تُربِّتُ، ولا كلمة طيبة تُسكّن الوجع.

جميع الأطراف تتآمر عليه، بدءًا من طبيبٍ لا يرحمُ، مروًا بتاجر جشع، وبمنظومةٍ تعليميةٍ، ينخرُ فيها السُّوسُ، ويقطنها الفسادُ، وليس انتهاءً بـ "حانوتى" قد لا يجد حرجًا في أن يبيع جثته، إذا وجد الفرصة سانحة لذلك.

يبدو المواطنُ الغلبان كأنه فريسة سهلة في غابةٍ موحشةٍ، يتسابقُ الجميع لإنهاكه والتهامه. وهو ما يحدث في الواقع، حيث يتسابقُ القومُ، كبيرُهم وصغيرُهم، على ما في جيبه من مال، قلَّ أو كثُرَ.

لا يجد هذا المواطنُ الذليلُ، مَنْ يسمع شكواه. وإنْ وجد من يسمعه، فإنه يسخرُ منه ويهزأ به، ويصدمه بمقارناتٍ غير منطقية بين ظروفه وظروف ساكنى "نيويورك" و"باريس".

لا تجيدُ الحكومة اختيار رُسلها، بل تختار أسوأهم وأقلهم حضورًا، وأثقلهم ظلًا، وأشدهم سُخفًا،، ليقنعوا المواطن الغلبان بأنه يعيش في جنات النعيم، وأنه أفضل حالًا من جميع أقرانه على كوكب الأرض، بل والكواكب المجاورة والبعيدة، وعليه أيضًا أن يُصدق ذلك الذي يطوقُ معصمه بساعة يتجاوز ثمنها ربع مليون جنيه، أو تلك التي تحمل في أصابعها مصاغًا ذهبية تكسر حاجز نصف المليون حنيه، ويأتمر بأمرهم وينتصح بنصحهم.

لا يجبُ على الحكومة الحالية، ولا الحكومات المقبلة، أن تراهن على ميكنة المواطن الغلبان، بحيث تُضاعِفُ من همومه وأعبائه، بلا رحمة أو شفقة، ظنًا منها أن صبره لن ينفد، وصموده لن ينتهى؛ فالماكيناتُ نفسُها لا تحتملُ إلى ما لا نهاية، فهذا رهانٌ خاسرٌ يصلُ إلى حدِّ المُقامرة.
الجريدة الرسمية