الفيلسوف!!
لا يقولُ كلامًا جديدًا في كرة القدم، ولكنه يقولُ الكلام ذاته الذي يكررُه أقرانه من "المُحللين الرياضيين"، بـ "نبرةٍ ناعمةٍ" و"ألفاظٍ رومانسيةٍ" و"عباراتٍ هادئةٍ"، فأطلقوا عليه لقب "الفيلسوف"، ولم يكتفوا بذلك، بل خصصوا له برنامجًا إذاعيًا باسم "الفيلسوف"، في واحدة من نوادر هذا الزمان!
فيلسوفُ الكرة، لم يقدمْ شيئًا مذكورًا في برنامجه "الفيلسوف"، بل يعيدُ ما قاله في مساء اليوم السابق بالاستوديوهات التحليلية في حضرة كبار مقدمى البرامج، وجميعُهم من أعضاء مجلس إدارة اتحاد كرة القدم "المُستقيل كرهًا"، بعد فضيحة الخروج المُهين من الدور الـ 16 لبطولة الأمم الأفريقية التي تستضيفها مصرُ، وسط اهتمام رسمى وشعبى جارف، وأجواء عالمية، تشبه أجواء كأس العالم.
ولأنَّ فيلسوفَ كرة القدم، يعلمُ من أين تُؤكلُ الكتفُ، فكان لا يتوقفُ عن الغزل في أعضاء الاتحاد، لا سيما من لا يغادرون الاستوديوهات الفضائية والإذاعية، حتى يضمن ولاءهم له ورضاءهم عنه، فكان يرى فيهم ما لا يراه غيرُه من "عبقرية فذة" و"مهارة لا تُبارى" و"عقلية استثنائية"، فيداعب هذا، ويتغزل في ذلك، ولا يغضب أحدًا، ولا يقول رأيًا مُعارضًا، حتى يبقى مرغوبًا، وليس مرفوضًا مثل: "رضا عبد العال"، الذي أثبتتْ الأيامُ صدق تنبؤاته، وصحة توقعاته، سواء عن لاعبى المنتحب أو مدربهم، ومنظومة الكرة بالكامل القائمة على المجاملات والتربيطات.
ولأنَّ الله لا يُصلحُ عمل المفسدين، فقد باغتهم من حيث لم يتوقعوا، وعكَّر صفوهم، في اللحظة التي توهموا فيها أنهم قد امتلكوا كل شيء. لقد جاء الخروجُ المهينُ للمنتخب من دور الـ 16 من بطولة أمم أفريقيا أمام أكثر من مائة ألف متفرج، عدا ملايين المشاهدين أمام الشاشات، كاشفًا وفاضحًا، لمنظومة مسكونة بالفشل الإدارى المُمنهج غير المسبوق.
وفى الوقت الذي يتم فيه تخصيصُ برنامج باسم "الفيلسوف"، يذاع 3 مرات أسبوعيًا، للحديث في كرة القدم، فإننا نعدمُ في عموم الإعلام المصري، الحكومى والخاص، الفضائى والإذاعى، برنامجًا يتحدثُ عن الفلسفة، أو يستضيفُ الفلاسفة المصريين، ويتناولُ مؤلفاتهم وكتبهم، ويناقش أفكارهم.
في منتصف الشهر الماضى، رحل عن عالمنا في صمتٍ مريبٍ، فيلسوفان حقيقيان، هما: المترجم والفيلسوف الدكتور "إمام عبد الفتاح"، أحد أبرز تلامذة الدكتور "زكى نجيب محمود"، وأحد من تولوا التعليق على فكره في الفكر العربي المعاصر، والدكتور "عزت قرنى"، رئيس لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، وهما من هما فكرًا وثقافة وفلسفة.
لا يزالُ في مصرَ مفكرونَ وفلاسفة كبارٌ، ولكن لا أحدَ يهتمُّ بهم، أو يسألُ عنهم، أو يستضيفهم في برنامج، أو يخصصُ لهم برنامجًا يعرضُ ويناقشُ إنتاجهم الفكرى والفلسفى، لأن تركيزنا كله صار مُوجَّهًا لكل من لا قيمة ولا وزنَ له. نحتفى بفنانة مبتذلة، وندافعُ عن لاعب متحرش، حتى تصحَّرتْ العقلية والذهنية المصرية جيلًا وراء جيلًا، ووصلنا إلى اليوم الذي نطلقُ فيه على شخص لا يحمل فكرًا ولا رؤية ولا علمًا "فيلسوفًا"، ولا نكتفى بذلك، بل نخصص له برنامجًا باسم "الفيلسوف"!
أمَّا الفلاسفة الحقيقيون، فليس عليهم إلا أن يتحسَّروا على ما أضاعوه من الجهد والعمر وما عانوه من التجاهل والتغافل، وعليهم أن يترقبوا مصيرًا مثل مصير: "إمام عبد الفتاح" و"عزت قرنى"، حيثُ الرحيلُ الصامتُ والجاحدُ، وحيثُ لا كرامةَ لفيلسوفٍ أو مُفكر أو عالِم في أوطان العرب، والمجدُ، كلُّ المجد لمن يفكرون بأرجلهم ويمشون على رؤوسهم، ويكتبون بنعالهم، ويسكنون الجبلاية..