رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا لا يتبرعُ رجالُ الدين للمشروعات الخيرية؟


يغضب المتدينون دائمًا من ضرب هذا المثل، ويُحذرون منه، وكأنه "خروجٌ من الملة"، ولكنى سوف أخالفهم الرأى، فطالما أثبتتْ الأيام والليالى، أنَّ رأيهم بئس الرأىُ، وأن كثيرًا منهم أهلُ دنيا وأصحابُ هوى.


أما المَثـَلُ فهو أنَّ الملياردير الأمريكى "وارين بافيت" تبرع مؤخرًا بنحو 3.6 مليار دولار من ماله الخاص، لخمس منظمات خيرية، علمًا بأن هذا التبرع ليس الأولَ، ولن يكون الأخيرَ. كما أن كثيرًا من رجال الأعمال والفنانين والفنانات يتبرعون بسخاء للمشروعات الإنسانية الخيرية، ويتكبدون مشقة توصيلها والإشراف على إنفاقها.

فمَنْ تعلمونه مِن مليارديرات ومليونيرات رجال الأديان فعلها ولو مرة واحدة؟ هل بلغكم أنَّ الشيخ "فلان" خصَّص جانبًا من ثروته لمنظمة خيرية، أو أن القِسَّ "عِلان" أوصى ببعض ثروته لأغراض إنسانية، أو أنَّ حاخامًا من الحاخامات تنازل عن جزء من مخصصاته المالية للفقراء والمحتاجين؟

هم فقط يأمرون الناس بالبر، ويَنسوَنَ أنفسهم، ومنهم من يضلُّ الطريق، فيأمر بأن يكون التبرعُ مشروطًا، لا يذهب مثلًا لغير أتباع دينه، ومنهم من يُسخِّر نفسه وأمواله لخدمات منظمات ترقى لأن تكون إرهابية.

يُشعرك معظم المشتغلين بالأديان أن قوله تعالى: "وتأكلون التراث أكلًا لمًّا، وتحبون المال حُبًا جمًا"، كأنه قد نزل فيهم ومن أجلهم. ولتجدنهم أحرصَ الناس على حياة، وأكثرهم إقبالًا على الدنيا، وعلى شهواتها وملذاتها الفانية التي يأمروننا بالزهد فيها والترفع عنها، رغم أنَّ كلَّ دعوة تُحبِّبُ الفقرَ للناس أو تقنعهم بالهَون في الحياة هي دعوةٌ فاجرةٌ، يُرادُ بها التمكينُ للظلم الاجتماعى، وهى قبل ذلك افتراءٌ على الله.

أحدُهم خصَّص بعض حلقات برنامجه للحديث عن الزهد والصبر على الفقر، تحت دعاوى واهية كاذبة، وهو قد حاز من الدنيا ومتاعها ما لم يحظَ به الصحابيان الثريان: "عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف"، يستبدل زوجاته، كما يستبدل أحدُنا جواربه، ويمتلكُ من السيارات أحدثها وأغلاها، وقصرًا منيفًا على أطراف العاصمة، وشققًا فارهة في قلب القاهرة، وشاليهًا للصيف وآخر للشتاء، وقبل ذلك كله.. حرم شقيقاته من ميراثهن الشرعى واستأثر به لنفسه.

هذا الرجل، ليس بدعة من أهل زمنه، فبعض رجال الدين الإسلامى والمسيحى في بلادنا يُضربُ بهم المثلُ في السفه والتبذير، أو اكتناز المال وادخاره، ولو سألهم سائلٌ، أو لجأ إليهم معدومٌ، أشاحوا بوجوههم عنه، وزجروه وأهانوه، رغم أن كثيرًا منهم ينطبق عليه وصف "إقطاعي"، دون أدنى مبالغة!!

هذا الملياردير الذي تبرع بكل هذه المليارات لخمس منظمات خيرية، أو مواطنه "بيل جيتس"، ومن يصنعون صنيعهما من أصحاب القلوب الرحيمة والضمائر الحيَّة، هم المثلُ الأعلى الذي يجبُ على الإنسانية أن تحتذى بهم، وتسير على نهجهم، ولا ينبغى أن يفتئتَ بعد ذلك أحدُ الحمقى على الله، فيدخلُ فريقًا الجنة، وفريقًا النارَ، وفق هواه الساذج والمريض.

وإذا كان اللهُ أدخل رجلًا الجنة؛ لأنه سقى كلبًا كاد العطشُ أن يقتله، وأدخل امرأة النارَ؛ لأنها حبستْ قطة دون أن تُقدم لها طعامًا أو شرابًا، فما بالنا بمن يتخلَّونَ عن معظم ثرواتهم "الخرافية" للمرضى والفقراء والمُشردين في أنحاء العالم، دون قيدٍ أو شرطٍ، وبعيدًا عن أية اعتبارات دينية أو عنصرية؟ أو ليسوا هم أولى برحمة الله وعنايته وحفظه وحُسن جزائه في الدنيا والآخرة، ممن ينازعونه على صكوك الغفران والجنة والنار،، لأنهم طبقوا الجوهر الحقيقى للأديان، ونفذوا الهدف الأسمى من خلق الإنسان؟

جوهرُ الأديان السماوية لا ينطلق من "طقوس جوفاء"، أو "شعائر صمَّاء"، أو "تمتمات لوغاريتمية"، ولكنه ينطلقُ من قاعدة إنسانية مدهشة هي: "الدين المعاملة"، فلا دين لمن لم يحسن معاملة أهله وذويه وجيرانه وزملائه، ألم يقل الله في قرآنه الكريم: "وقولوا للناس حُسنًا"؟

الطقوسُ والشعائرُ أعمال ذاتية، لا تفيد إلا من يقوم بها، ولا تستفيدُ الإنسانية منها شيئًا، إنما يستفيد الناس عندما يجدون من يحنو عليهم، ويمد إليهم يد التعاون، ويشعر بآلامهم وأوجاعهم ويشملهم بالمحبة والتقدير.

الأديانُ ليست مساجدَ وكنائسَ ومعابدَ، ولكنها تعنى شمولًا للناس بالرحمة والرفق واللين والمعاملة الطيبة والقول الحسن، وتطبيقًا عمليًا للنص الإلهى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".. وأرجو أن تلاحظ التعميم في لفظتى: "الناس" و"العالمين"، فالأمرُ ليس مشروطًا أو مُقيدًا، كما يحلو لتجار الأديان أن يزايدوا على توجيهات السماء.

والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه: كيف تحوَّلت "رحمة الإسلام" إلى عنف وقسوة، وكيف صارت "محبة المسيح" كراهية واستقطابًا، وكيف أصبح "لين موسى وهارون" حروبًا وتدميرًا؟ ومتى يتغلب رجال الدين على شُحِّ أنفسهم، ويتبرعون بأموالهم لمن يحتاجونها من الفقراء والمرضى، ولا يكنزونها، حتى لا يتحقق فيهم الوعيدُ الإلهى: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ"؟!
الجريدة الرسمية