"محمد أفندي العباسي".. زفة البطل
من معجزات حرب النصر العظيم في أكتوبر 1973، أننا خضناها كرجل واحد.. لم يكن هناك فرق بين عريف ولواء.. ولا بين مجند ومتطوع.. ولا بين ضابط حاصل على أرقى الدورات التدريبية وبين عسكري، جاء من الغيط مباشرة إلى خط النار، لا يكاد يفك الخط.
كلهم أحب مصر.. وأقسم أن يفديها بروحه، ويروي ثراها بدمائه.. الشعب امتزج مع الجيش في نسيج واحد.. صارت مصر كلها كتلة متوحدة.. فانهالت عليها المعجزات، وتوالت الانتصارات التي لم يكن أشدنا تفاؤلًا يحلم بها.
لم يكن هناك مسلم ومسيحي، ولا صعيدي وبحراوي، ولا غني وفقير.. الكل مصري.. الجميع أبطال.. ورجال.. وفدائيون.. قصصهم لا يكفي لتدوينها ماء البحر، لو كان مدادًا.
من بين هؤلاء بطل وُلِد مرتين.. الأولى عندما استقبلته دنيانا في 21 فبراير 1947، والميلاد الحقيقي كان في اللحظة التي لمست قدماه فيها أرض سيناء، في أكتوبر 1973.. فكان أول جندي يرفع العلم المصري، رمز العزة والكبرياء فوق تراب سيناء، بعد العبور العظيم.
إنه "محمد محمد عبدالسلام العباسى"، وشهرته "محمد أفندى العباسي"، الذي لم ينل من التكريم سوى شهادة بسيطة، ومصافحة الرئيس الراحل "أنور السادات".. عاش في منزل بسيط بـ "القرين"، وكان يروي لأبنائه، ثم أحفاده ذكرياته فيقول:
"كل سنة تمر بحس إنى بتولد من جديد.. بحس إنى عايش حلم انتصارات الحرب كل سنة.. أنا قعدت في الجيش 10 سنين قبل الحرب، من أجل يوم العبور".
"ولدتُ بمدينة القرين الشهيرة بمواقفها في مقاومة الاحتلال الإنجليزى، سواء في معارك "التل الكبير"، أو في العدوان الثلاثى على مصر، حيث كان الأهالي يهاجمون معسكرات العدو، ويستولون على أسلحتهم. حفظتُ القرآن الكريم في كتاب القرية، ثم حصلت على الابتدائية والإعدادية، وبعدها توقفت عن الدراسة، واشتغلت بالتجارة والزراعة، حتى التحقت بالتجنيد أثناء حرب أكتوبر.
بدأت خدمتي في سلاح المشاة عام 1968، وفور وصولنا قناة السويس، كان الجيش الإسرائيلى بدأ في إنشاء خط بارليف.. كانت النيران تغلى في عروقنا، ولكن كان علينا الصبر، حيث كانت التعليمات لدينا بعدم إطلاق النيران على الأعداء في تلك الفترة، وكانت مصر كلها في أزمة اقتصادية كبيرة، وكان الدخل كله مخصص للقوات المسلحة، حتى رزقنا الله بالقادة العظام المخلصين الذين أعدوا الجيش في فترة الاستنزاف.
قائد كتيبتنا كان بيغلى من جواه، زى أي مصرى دمه حامى.. وذات يوم قال لنا "هو أنا هستنى لما يقولوا لي اضرب وأنا عندى ذخيرة"، فطلب منا أنا نصعد فوق مستشفى قناة السويس، وقال لنا: أنا عايز صيد ثمين من العدو، وفى تلك الفترة كان قائد القطاع الشمالى الإسرائيلى جاي في زيارة للموقع، وقام جنديان منا بإصابته في عينه، فمات في الحال، وكانت فرحة هائلة، وتم مكأفاة الجنديين بصرف 50 جنيها، في الفترة التي كان الجندى المصرى يتقاضى 243 قرشا.
في تلك الفترة بدأت إسرائيل تشن حرب نفسية علينا عن طريق إمداد جنودهم بالزاد، ونحن كنا نأكل ما يكفى لوجبة واحدة في اليوم، فضلا عن إحضار الفتيات لإثارة غرائزنا، لكن كان إيماننا بالنصر، وبالله، أقوى سلاح.. وتوالت الأعمال القتالية، وبدأنا نضع الألغام في طريق الدبابات الإسرائيلية، حتى جاءت الأوامر بعبور مجموعة من الجنود قناة السويس ليلا، وانتظار دورية إسرائيلية وتدميرها، وكان عددنا 12 جنديا..
وانتظرنا حتى مرت الدورية، وقمنا بتدميرها، وفتح ناقلات الجنود، وأخذ 3 أسرى، وقمنا بتكبيلهم، ووضعنا عوامة في رقبتهم لكى لا يغرقوا، وعبرنا بهم القناة عائدين، وبعدها انقلبت الدنيا في إسرائيل.. ازاي جنود مصريين معاهم بندقية وكوريك يقوموا بتلك العملية، وقاموا بالرد علينا بالطيران، واستشهد 4 منا، وأصبت بدفعة نيران بفخذى الأيمن.
أخدت إجازة قصيرة ورجعت الموقع تاني، حتى جاء يوم 5 أكتوبر 1973، وكنا في رمضان، وجاءت التعليمات أنه سيتم غدا صرف وجبة فطار لجميع الجنود، وكانت صلاة الجمعة عن الاستشهاد ومكانة الشهيد، وهنا شعرت بأن ساعة الثأر قد حانت، وخاصة أننا في صلاة الجمعة كنا نسجد على علم مصر".
في صباح يوم السادس من أكتوبر 1973، العاشر من رمضان 1393، بدأت عمليات التمويه، فكان جنودنا يلعبون كرة القدم والشطرنج، وفى حالة استرخاء، ثم كانت ساعة الصفر، وعبرنا قناة السويس، وكنتُ في طليعة المتقدمين نحو دشمة حصينة بخط بارليف، ولم اهتم بالألغام والأسلاك الشائكة، وقمت بإطلاق النار على جنود حراسة الدشمة الإسرائيلية، وفى نفس الوقت كانت المدفعية المصرية تصب نيرانها على الدشمة نفسها، وتمكنتُ من قتل أكثر من ثلاثين إسرائيليًّا..
ومن شدة انفعالي وفرحي قلتُ لقائد الكتيبة "المقدم ناجى": "مبروك يا ناجى.. مبروك يا ناجى" (بدون ألقاب)، فقال لى: "مبروك يا عباسي.. ارفع العلم يا بطل"، فقمت بإنزال العلم الإسرائيلى، ورفع العلم المصري بدلا منه، ومازالت بخاطري صورة الطيران المصري وهو عائد بعد دك المطارات الإسرائيلية، وشاهدت كلمة "الله أكبر" مكتوبة بخط السحب المتصاعدة من المقذوفات.
بعد توقف إطلاق النيران سُمح لى بزيارة أهالي حيث كان ثانى أيام عيد الفطر المبارك، وعندما نزلت القرين، فوجئت بمأمور القسم جاء، وقال لأسرتى: "عايزين نزف البطل اللي رفع العلم في حرب أكتوبر، وجابوا حصان ركبت عليه، ومعى علم مصر، وقام أهالي قريتى بالتصفيق والزغاريد، يرددون: "محمد أفندى رفعنا العلم"، وعمت الفرحة جميع أبناء القرية، ورزقنى الله بعد ذلك بمولد سميته نصر".
وفي صباح يوم الإثنين 1 يوليو 2019، ودع "العباسي" دنيانا الفانية، وزفت الملائكة روحه الطاهرة في رحلة الصعود إلى جنات الفردوس.. فأمثاله عند ربهم يرزقون، ولو قضوا على فراشهم.