"عبده عبد الراضي".. عملاق التلاوة الذي لا يعرفه أحد!
منذ فترة بعيدة، كنت استمع لإذاعة القرآن الكريم، وإذا بحوار مع الشيخ "مصطفى إسماعيل"، والمذيع يسأله: "من صاحب أجمل صوت سمعته أذناك؟ فأجاب: طبعا تتوقع أن أقول لك الشيخ "رفعت"، أو "علي محمود"، أو غيرهما.. لا، بل هو قارئ لا يكاد يعرفه أحد، في قرية بالصعيد، بمركز جرجا بسوهاج.. إنه الشيخ "عبده عبد الراضي".. وطفق يمدح في الشيخ وصوته.
وكذلك أثنى عليه الشيخ "عبد الباسط عبد الصمد"، في حوار مع مجلة "الكواكب".. إنه الشيخ "عبده عبد الراضي عبد الله صالح".
أعظم صوت سمعته يتلو القرآن، على الإطلاق.. يمتاز بالخشوع والقوة والجمال.. كان مزيجًا فريدًا من أصوات كبار القراء.. فهو يجمع بين قوة وجزالة صوت الشيخ "مصطفى إسماعيل"، وخشوع "محمد صديق المنشاوي"، وروعة "راغب مصطفى غلوش"، وعذوبة صوت "عبد الباسط عبد الصمد"..
لكن عدم انضمامه للإذاعة، لأسباب غير معروفة، حرم ملايين المسلمين في أقطار الأرض من التمتع بلذة الاستماع إلى صوته، وحتى التسجيلات التي تمكن معجبوه من الاحتفاظ بها قليلة، وتفتقر إلى الجودة، ولا تكفي لإدراك عظمة هذا القارئ وعبقريته.
في قرية أولاد عليو بمركز البلينا في محافظة سوهاج، كان مولده، حيث أهلّ على مصر عَلم من أعلام القراء، صباح يوم جمعة، من عام 1922، ومضى في مسيرة تلاوة القرآن الكريم، حتى صار ثالث الثلاثة الكبار في التلاوة، بعد الشيخين "محمد رفعت"، و"مصطفى إسماعيل".. وفي الصعيد، وخاصة مدينة جرجا، ما زالت الحكايات تروى عن تألق هذا الشيخ، وتميزه، وتواضعه.
وكما يُقال "ربّ ضارة نافعة"، فقد كُفّ بصره، وهو لم يزل طفلًا صغيرًا، لم يتجاوز عمره الست أعوام، لينتقل إلى كُتّاب القرية، ويُتم حفظ القرآن الكريم، وعمره 12 عاما، على يدي الشيخين "رشوان" و"محمد عبد الرحمن"، ثم يواصل رحلته مع كتاب الله وعلوم القراءات، فينتقل إلى جرجا، ويُتم علوم القراءات العشر، وعمره 15 عاما، على يد الشيخ "أحمد شحاتة الجحاوي".
ويومًا بعد يوم، وبسبب أدائه المتميز وصوته العذب، ذاع صيته في أنحاء محافظة سوهاج، بل في محافظات الصعيد الأخرى كأسيوط وأسوان وقنا والأقصر، إلى أن أصبح قارئ السورة في مسجد عمار بن ياسر في البلينا.
عاصر الشيخ "عبده عبد الراضي" كثيرًا من أساطين التلاوة المشهورين في الإذاعة آنذاك، بل قرأ معهم، وجمعته بهم مناسبات عديدة، مثل: الشيخ "محمد صديق المنشاوي"، والشيخ "محمود علي البنا"، والشيخ "عبد الباسط عبد الصمد"، والشيخ "مصطفى إسماعيل"، لكن لم يُكتب له الالتحاق بالإذاعة المصرية.
سجّل التاريخ للشيخ "عبده" ما يدل على تمكّنه من فن التلاوة بعلومه وأحكامه، فحينما التقى بالشيخ "مصطفى إسماعيل"، في أول لقاء جمعهما، في مناسبة في "جرجا"، وبينما كان الشيخ "عبده" يقرأ آخر سورة «الأنعام»، ووصل إلى قوله تعالى: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عُشْرُ أَمْثَالِهَا"، وقرأ كلمة "عَشْرٌ" بالتنوين بدلًا من الرفع (قراءة الإمام يعقوب)، هَمّ الشيخ "مصطفى"، ليرده، ويصحح له طريقة القراءة، معتقدًا أنه أخطأ، فأمسك الشيخ "أحمد شحاتة" بيد الشيخ "مصطفى"، وقال: "دعه يا درش، فهو يقرأ ليعقوب، ده تلميذي"،
ومن هنا صارت صداقة قوية مع انبهار من الشيخ "مصطفى إسماعيل"، الذي صرح بعد وفاة الشيخ "عبده" بأن هذا الشيخ هو على رأس مدرسة متميزة في تلاوة القرآن.
وصلت إلينا تسجيلات الشيخ "عبده" بشكل رئيسي عن طريق الشيخ نفسه، حيث كان يهتم بتسجيل تلاواته بنفسه، ورغم أنه كان كفيف البصر، فقد كان يأخذ معه جهاز "كاسيت"، ليقوم بتسجيل التلاوة، وحينما يرجع إلى بيته يستمع للقراءة، وربما كان يُكمل آية ناقصة إن وُجدت.
وفى صبيحة الثلاثاء 23 مايو 1978، رحل عن عالمنا الشيخ "عبده عبد الراضي"، حيث كان عائدًا من إحياء ليلة قرآنية، وأحس بإرهاق، فنقلوه إلى المستشفى، ولم يفقد وعيه للحظة، حيث كانت حالته مستقرة، لكن الروح الزكية أبت إلا أن تلتقي بخالقها عن عمر يناهز 56 عاما، لكن صوت الراحل ما زال يتردد على أذان السمّيعة والمحبّين من عُشّاق عمالقة القراء.
ومن مواقفه الطريفة، التي يرويها عنه محبوه، أنه دخل المسجد ذات مرة، فسأله الإمام: "يا مولانا؛ إذا سرق شخص شريطًا من الجامع، ما حكمه؟ فسأله الشيخ: هو الشريط ده لمين؟ فقال الإمام: الشريط للشيخ "عبده عبد الراضي"، فرد الشيخ: يبقى سرقته حلال".