الإمام البويطي.. خليفة الشافعي.. شهيد المبادئ
لا يزال موكب العلماء يحفل بالآلاف من الأئمة الذين اتخذوا من مصر خير مقام، منحدرين من عقد العظماء، الذي ضم آل بيت النبوة، وأولياء الله الصالحين، وعلماء أضاء نورهم ما بين السماء والأرض.
من بين الأئمة والعارفين رجل لم تسلط عليه الأضواء، رغم عظمته، وشرفه، وعلمه، وفقهه، وتاريخه الذي يشهد بأنه لم ينحنِ، ولم يرضخ للضغوط، والإغراءات، وارتضى أن يموت في سجنه وقيوده، دفاعًا عن مبادئه.. فسجل التاريخ اسمه وموقفه بحروف من نور في صفحات الفخار والعزة.. هو حسن أبو يعقوب يوسف بن يحيى، الشهير بـ"البويطي".
قالت عنه الدكتورة "نعمات أحمد فؤاد": "في موكب العلماء الأجلاء العارفين بالله بحق..... لم يمت في أعلام الرجال فخر الإنسانية الإمام "البويطي"، العالم الإمام، فإن القيم لا تموت، لم يمت إمام مصر، ولكن مات المأمون".
هو عالم مصر، وفقيهها.. ووارث علم وحلقة الإمام الشافعي.. صبر على البلاء، ورفض أن يداهن أو يتخلى عن مبادئه، إلى أن مات في سجنه، وهو مقيد اليدين والقدمين بنحو أربعين رطلًا من الحديد.
كان صالحًا عابدًا متهجدًا، دائم الذكر والتشاغل بالعلم. قال عنه "يوسف بن يحيى": الإمام أبو يعقوب المصري البويطي الفقيه، صاحب الشافعي، روى عن ابن وهب، والشافعي، وغيرهما. وروى عنه الربيع المرادي رفيقه، وإبراهيم الحربي، ومحمد بن إسماعيل الترمذي، وأبو حاتم، وقال: صدوق، وأحمد بن إبراهيم بن فيل، والقاسم بن هاشم السمسار، وآخرون.
بلغنا أن الشافعي قال: ليس في أصحابي أعلم من البويطي.. قال إمام الأئمة ابن خزيمة: كان ابن عبد الحكم أعلم من رأيت بمذهب مالك، فوقعت بينه وبين البويطي وحشة عند موت الشافعي، فحدثني أبو جعفر السكري قال: تنازع ابن عبد الحكم والبويطي مجلس الشافعي، فقال "البويطي": أنا أحق به منك. وقال الآخر كذلك. فجاء الحميدي، وكان تلك الأيام بمصر، فقال: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.
وجلس البويطي في مجلس الشافعي.
كان البويطي حين مرض الشافعي بمصر هو وابن عبد الحكم والمزني، فاختلفوا في الحلقة أيهم يقعد فيها؟ فبلغ الشافعي فقال: الحلقة للبويطي، وكانت أعظم حلقة في المسجد، والناس إليه في الفتيا والسلطان إليه، فكان أبو يعقوب البويطي يصوم ويقرأ القرآن، ولا يكاد يمر يوم وليلة إلا وختم. مع صنائع المعروف إلى الناس. قال: فسعي به، (وشى به البعض إبان أزمة خلق القرآن، أيام المأمون).. حتى كتب فيه ابن داود إلى والي مصر، فامتحنه، فلم يجب. وكان الوالي حسن الرأي فيه. فقال: قل فيما بيني وبينك. فكان رده على الوالي: إنه يقتدي بي مائة ألف، ولا يدرون المعنى. قال: وكان قد أمر أن يحمل إلى بغداد في أربعين رطل حديد.
قال أبو جعفر الترمذي: فحدثني الثقة عن البويطي أنه قال: برئ الناس من دمي إلا ثلاثة: حرملة، والمزني، وآخر. وقال الربيع: كان البويطي أبدًا يحرك شفتيه بذكر الله. ما أبصرتُ أحدًا أنزع لحجة من كتاب الله من البويطي. ولقد رأيته على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد. وبين البغل والقيد سلسلة حديد، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بـ "كن". فإذا كانت مخلوقة، فكان مخلوقا خلق بمخلوق. ولئن أدخلت عليه لأصْدُقَنَّه، يعني "الواثق" (خليفة المأمون)، ولأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
وقال الربيع أيضًا: كتب إلى البويطي أن أصبر نفسك للغرباء، وحسن خلقك لأهل حلقتك.
قلت: ولما تُوفي الشافعي جلس في حلقته بعده أبو يعقوب البويطي، ثم إنه حمل في أيام المحنة إلى العراق مقيدًا، فسجن إلى أن مات في سنة 231 في رجب، رضي الله عنه.
وكان الشافعي قد بشره بموته في السجن في الحديد.. (تاريخ القرآن.. عبد الصبور شاهين).
لما احتضر الشافعي دخل عليه أصحابه فقال: أما أنت يا أبا يعقوب فتموت في قيودك.. قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة.
وعندما وافت المنية الإمام الشافعى عام 819 هجرية صلى "البويطي" بالناس، وكان من بين المصلين كريمة الدارين السيدة "نفيسة"، رضى الله عنها.
قال أبو عمرو المستملي: حضرنا مجلس محمد بن يحيى الذهلي، فقرأ علينا كتاب البويطي، فإذا فيه: والذي أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يخلصني بدعائهم، فإني والحديد، وقد عجزت عن أداء الفرائض الطهارة والصلاة. فضج الناس بالبكاء والدعاء له.
(تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام).
وكان يستطيع أن ينجو من هذا السجن، فقد عرض عليه أمير مصر فأبى، لكونه قدوة لجماعات كثيرة من الناس. وكان يرى أن القرآن غير مخلوق، فإذا شاع في الناس أنه أسرَّ للوالي كلامًا غير معروف فسوف يتصورون أنه أقر بخلق القرآن، ولن يتصوروا أنه ثبت على رأيه، وبذلك تقع فتنة بين أتباعه، وهو لايريد أن تحدث مثل هذه الفتنة.
وكان في كل يوم جمعة، يغسل ثيابه، ويتنظف، ويغتسل، ويتطيب، ثم يمشي إذا سمع النداء (يتجه للمسجد للصلاة)، إلى باب السجن، فيقول له السجان: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني.
ترك كتاب: المختصر، والمختصر الصغير، وكتاب الفرائض. ودُفِنَ في ضريح بمدينة سميت باسمه "البويطي" بمركز الواحات البحرية. يقول أهل الواحات إنه عانى الكثير حتى وصل إلى هذا المكان، وتلقى كرمًا ومحبة من أهل الواحات، واستقر بها.. وأوصى أن يدفن بها.
ولم يتقاعس أهل الواحة عن تنفيذ وصيته، وبالفعل أقاموا ضريحا له دفن فيه عند موته، يوجد بالباويطى، وقريب من ثلاث عيون لها أسرار بمائها، وهي شفاء من كل داء وينتسب أيضا أسماؤها إليه لما كان يفعله فيها وهي: عين الصلاة.. وأُطلق عليها هذا الاسم لأنه كان يتوضأ منها الشيخ ويصلى بجوارها.
عين الجليس: وأُطلق عليها هذا الاسم لأن الشيخ "البويطى" كان يجلس هو وأهل الواحة بعد أداء الصلاة يتلقون علم دينهم عنه والى اليوم ترى أهل الواحة يجلسون بعد صلاة العصر بهذا المكان.
عين دلـو وعين رماح: بالفعل هي الدواء والشفاء من كل داء حتى إذا أهملوا فيها ولكنها باقية حتى الآن إذ يمشى أحد بهما ليلا وضل الطريق يرى فانوسًا يضيء له الطريق ويهديه حتى يصل إلى الأمان وبها بركات وأسرار كثيرة.
عين البشمو: هو مصطلح رومانى نسب إلى الشيخ البويطى ومعناها (عين الباشا).