الإيمانُ الضريرُ! "1"
كما أنَّ هناك "إيمانًا بصيرًا"، فإنَّ هناك "إيمانًا ضريرًا". وكما أنَّ هناك "إيمانًا قويًّا"، فإنَّ هناك "إيمانًا جبانًا"، فليسَ الإيمانُ درجةً واحدةً، بل درجاتٍ تتفاوتُ صعودًا وهبوطًا، ألم يقلْ الرسولُ الكريمُ: "المؤمنُ القوىُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيفِ"؟
مُصطلح: "الإيمانُ الضريرُ" من إبداع العالم الجليل الشيخ "محمد الغزالي"، الذي عاش بين عامي 1917 – 1996. كان "الغزالي" يتألم لواقع المسلمين، ويخشى على مستقبلهم، وتشهدُ مؤلفاتُه وكتبُه على عدم رضاهُ عمًّا آلتْ إليه حالُ المسلمين في زمانه، وهو ليسَ ببعيدٍ، حتى أنه ذكر في كتابه: "ركائز الإيمان بين العقل والقلب"، أنَّ كثيرًا من القضايا التي تشغلُ قلوبَ وعقولَ المسلمين، يجبُ أن يتمَّ إيداعُها المتاحفَ، وتبقى مجردَ أثر، ليسَ أكثرَ ولا أقلَّ.
آمنَ "الغزالىُّ" بأنَّ كثيرًا مما توارثه المسلمونَ من التراث كانَ وبالًا عليهم، بل إنه وصفَ تلكَ الكتبَ بأنها "سفيهة زائغة"، وأسهمتْ في صناعةِ أجيالٍ خاملةٍ وعقولٍ شائهةٍ، كما سبق العالمُ الراحلُ عصرَه في المطالبة بإعدام بعض تلكَ الكتب، وتنقيةِ البعض الآخر، والإبقاءِ فقطْ على ما ينفعُ ولا يضرُّ.
وانطلاقًا من هذا الموقف المشهود تجاهَ جانبٍ كبيرٍ من تراث المسلمينَ، لم يجدْ "الغزاليُّ" حرَجًا في أنْ يصفَ إيمانَ بعض المتدينين بأنه "إيمانٌ ضريرٌ"، يهدمُ ولا يبني، يكسرُ ولا يُرمِّمُ، يدفعُ الأمة إلى هوةٍ سحيقةٍ من التخلف والرجعية، وكلاهما يصنعُ أجيالًا مُتعاقبة من المتطرفين والمتشددين.. وساءَ أولئكَ رفيقًا.
الإيمانُ الضريرُ- في رأي "الغزاليِّ"- هو ذلكَ الإيمانُ الذي يخاصمُ الحياة، ولا يُبصرُها، ولا تُسحرُه عجائبُها، ولا تستهويه أسرارُها. هو إيمانٌ جبانٌ، يفرُّ إلى "صومعة"، ويحيا داخل "قوقعة"، لا يجرؤ على الضربِ في الأرض. هو إيمانٌ ذليلٌ يعيشُ في كَنَف المبادئ الأخرى. هو إيمانٌ لا يستقيمُ مع منطق صاحبِ الرسالة، صلى اللهُ عليه وسلم، الذي جعلَ اليد العليا خيرًا من اليد السفلى، وجعلَ المسلمَ الحقيقي يعطي ولا يأخذُ، وأخبرنا بأنَّ المؤمنَ القوىَّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمن الضعيف.
ينعى "الغزالي" في هذا الكتاب وغيره، حالَ كثيرٍ مِن المُنتسبينَ إلى الإسلام الذين تخلَّوا عن عقولهم واستغنَوا عنها، وتعاملوا معها باعتبارها من "سَقَط المتاع"، واستسلموا لقديم الأفكار، وقديم الاجتهادات، وقديم التفسيرات، فتحولوا تدريجيًا إلى "عبءٍ ثقيلٍ" على الإسلام، وعلى الإنسانيةِ كلها.
لم يجدْ "الغزالي" حَرجًا في أن ينصحَ بغلق الأبواب والنفوذ أمامَ "التدين القديم السقيم"، وعدم تمكينه من تخريب الدنيا؛ إذ إنَّ "التدينَ ليس جسدًا مهزولًا من طول الجوع والسهر، ولكنه جسدٌ مُفعمٌ بالقوة التي تُسعفه على أداء الواجبات الثقال"، على حدِّ تعبير الإمام الراحل.
لا يكتفي "الغزاليُّ" بذلكَ، بل زادَ عليه: "التدينُ الذي انكمشَ أمامَ أقدام العلم، وقَبعَ مكانه ساخِطًًا على ثمراتِ التقدم المدنيِّ، لا يستحقُّ -في نظرنا- أن يُعطى فرصة أخرى لتخريب الدنيا، وشلِّ نمائها"، مضيفًا: "أخطأ بعضُ المتدينين فظنوا أنَّ زكاة الرُّوح لا تتمُّ إلا بدمار الجسد، وضمانَ الآخرة لا يتمُّ إلا بضياع الدنيا".
ينتهي "الغزالىُّ" من ذلكَ كلِّه إلى نتيجةٍ حتميةٍ هي: "كلُّ تدينٍ يُجافي العقلَ، ويخاصمُ الفكرَ، ويرفضُ عقدَ صُلحٍ شريفٍ مع الحياة، هو تدينٌ فقدَ كلَّ صلاحيته للبقاء، وأهلُ الأرضِ، لا أظنُّ أنهم يَحنِّون إليه بعدَ ما مُنحوا نِعمة الخلاص منه، فالتدينُ الحقيقىُّ هو إيمانٌ بالله، وشعورٌ بالخلافة عنه في الأرض".