نجوم كان 2019.. خاليدو كوليبالي «K2» رجل الثلاث قارات وابن الثقافتين
صباح الـ 20 من يونيو عام 1991، داخل إحدى مستشفيات سانت ديه دى فوج في فرنسا، تستعد امرأة سنغالية لوضع طفلها الأول، تغمض عينيها.. تكتم صرختها.. تتشبث بملابس زوجها وتهمس في أذنه «نجحنا.. الحلم أصبح حقيقة.. لنسميه خاليدو.. ليكون خاليدو كوليبالي».
في الغرفة المجاورة لهم كانت سيدة فرنسية تضع مولودتها هي الأخرى وأسمتها «شارلين»، كانت تلك المولودة الصغيرة نفسها هي المرأة التي اقتحمت قلب خاليدو بعد 24 عاما وصارت بعدها زوجته في مفارقة قدرية غريبة!.
على لسان خاليدو كوليبالي، صاحب الـ 28 عاما، قلب دفاع فريق نابولي الإيطالي ومنتخب السنغال، في مرمى كبار أندية أوروبا لتأمين دفاعاتهم، يحكي كيف بدأت قصته قبل أن يولد.
وُلد خاليدو كوليبالي لأسرة سنغالية مهاجرة إلى بلاد النور، الأب عمل في أحد مصانع تقطيع الأخشاب والأم عملت مدبرة منزل، لكنهم حملوا أحلاما داخلهم بأن يصنعوا مستقبلا أفضل لأبنائهم.. بعد عقود من الزمن ترد كرة القدم لهم الجميل بمزيد من المال والفخر بنجلهم الأكبر.
كل شيء بدأ من هناك، من أمام منزله في سانت ديه دي فوج، طفل صغير انطوائي، لا تفارق الكرة قدميه: «أتذكر أن والدتي كانت تصرخ باستمرار على اسمي من النافذة لأنني ألعب كرة القدم لوقت متأخر من الليل وكان لدى مدرسة في اليوم التالي».. يقول كوليبالي عن البدايات.
داخل إحدى ساحات كرة القدم التقطت أعين مدرب فريق سانت دييه «إيريك سيفران» الطفل الأسمر خاليدو كوليبالي عندما كان يلعب مع أصدقائه ليلفت الانتباه سريعا حول مهاراته وقوته: «كان أنيقا في لمس الكرة، يبدو هادئا ويحمل في داخله إصرارا كبيرا، وثقة عالية شعرت بكل ذلك أثناء رؤيته وهو يلمس الكرة.. على الفور قررت منحه فرصة اللعب ضمن فريق الناشئين».
(هاديء، مثابر، انطوائي).. من أين اكتسب خاليدو تلك الصفات!
"في طفولتي كنت ألعب كرة القدم مع كبار السن، معدل أعمارهم كان ما بين الـ 35 عاما إلى 40 عاما، كانوا يظهرون في المساء بعد الانتهاء من أعمالهم، كانت الأحاديث بينهم مختلفة عن من هم في مثل عمري، اهتماماتي تختلف عن اهتماماتهم، أعتقد أن هذا الأمر جعلني أكبر بسرعة، كما ساهم في ازدهاري من الناحية الكروية.. بالفعل لقد ساعدني ذلك كثيرا من الناحية النفسية". يقول كوليبالي.
استمر خاليدو في اللعب لصالح فريق مدينته من عام 1999 حتى عام 2003 ومن ثم انتقل إلى فريق ميتز في الدوري الفرنسي بالدرجة الثانية، في ميتز لم يكن الطريق ممهدا بالورود، عانى التهميش فاستوحشت العزلة بداخله، يقول: "عشت أوقاتا عصيبة في ميتز كان لا مفر منها، لا أحد كان يطيقني سواء أصدقائي أو والداي، شعرت بعدم الثقة وأن الحلم الذي أحمله بداخلي ينهار رويدا رويدا".
ثلاث سنوات من الاحتراف في ميتز الفرنسي لم تكلل بالنجاح، إخفاق أثقل قلب الطفل الأسمر، يعود كوليبالي مرة أخرى إلى مدينته وفي حلقه غصة: «كانت روحه المعنوية سيئة للغاية، رجع إلى مسقط رأسه بمزيد من الفشل، كان يخالجه شعور بعدم الثقة في إمكانياته وهنا كان دوري في عودة الثقة إليه مرة أخرى »..يقول أﻻن شيبون، مدرب فريق فوق الـ 15 لنادي سانت دييه دي فوج.
لعب شيبون لـ"كوليبالي" دور الأب الروحي، نظر إليه كطفل صغير ضائع أراد أن ينتشله من فشله ويعيد البريق والأمل في عينيه، بجانب تطويره في كرة القدم ساعده في الالتزام في الدراسة: "بمساعدة مدربي شيبون قررت أن أركز على الدراسة، حيث كان المهم بالنسبة لي هو الحصول على الشهادة الثانوية، إذ أصبحت كرة القدم تأتي في المرتبة الثانية في قائمة الأولويات، استراتيجيتي كانت مواصلة التطور حتى أتمكن من اللعب في قسم الهواة، الأمور سارت بشكل جيد في المدرسة من أجل الحصول على عمل مستقبلا، لقد اكتسبت ما يكفي من النضج لأحدد ما أريد".
بدأ كوليبالي في رسم مستقبل جديد لنفسه بعيدا عن كرة القدم، يذهب إلى المدرسة صباحا يعود سريعا للذهاب إلى التدريب، خلال إحدى المباريات لعب الحظ دوره ليجد لـ"كوليبالي" فرصة أخرى في ميتز، يقول شيبون: "كنا نلعب في مواجهة ميتز مباراة ودية، ورأيت أنه يجب على أن أشرك كوليبالي في تلك المواجهة، كان صغيرا جدا لكنه منذ الدقيقة الأولى له على أرض الملعب تمكن من لفت الانتباه إليه وإلى قدراته ليقرر مدرب ميتز أن يمنحه فرصة أخرى ».
الحياة تعود مرة أخرى إلى كوليبالي سنوات من تجرع مرارة الفشل النجاح يطرق أبوابه من جديد، الآن يحمل أفكارًا أخرى: "بعد حصولي على شهادة البكالوريا توقفت عن الدراسة وعدت إلى ميتز، لكنني قمت بذلك بعد تقدمي بطلب للجامعة، لقد كنت أحب الرياضيات وخططت للعمل في مجال التأمين أو البنوك، كما أن فكرة العمل كمدرس رياضة كانت تستهويني أيضا".
عامان قضاهما كوليبالي في ميتز ظهر بشكل قوي، وصلب، لفت أنظار العديد من الأندية إليه وهو ما دفع نادي راسينغ جينك البلجيكي إلى التعاقد معه لمدة أربع سنوات.
حقق مع نادي جينك كأس بلجيكا، وكأس السوبر الإيطالي، كما تم اختياره في تشكيلة الاتحاد الأفريقي عام 2016، وتم اختياره في تشكيلة الدوري الإيطالي موسمي 2016 و2017، وسجل 14 هدفا، ومثّل منتخبه السنغال في 29 مناسبة، ومنتخب فرنسا للشباب في 11 مناسبة.
يقولون إن جميع الطرق تؤدي إلى روما، إلا أن كوليبالي وجد طريقا آخر يؤدي إلى.. نابولي.
الأمور تسير في طريقها الصحيح، يعمل بكد ويلقى احتفاءً بالمقابل ويحصد البطولات، إلا أن جاءت المفاجأة، خلال أحد الأيام تلقى كوليبالي اتصالا هاتفيا يخبره الرجل على الخط الآخر أنه مدرب فريق نابولي رافاييل بينيتز: «أغلقت الهاتف مرتين أو ثلاث، اعتقدت أن الأمر مزحة من أحد زملائي، لكن في النهاية كان الأمر حقيقيا، اتصاله كان نقطة تحول بالنسبة لي».
في الثاني من يوليو 2014، وقع كوليبالي عقدا مدته خمس سنوات مع نابولي الإيطالي.
«كنت أعيش بثقافتين مختلفتين، في الحي والمدرسة كانت الثقافة العامة هي ثقافة المجتمع الفرنسي أما في المنزل كانت ثقافة سنغالية خالصة".
عندما بدأ اللعب لصالح نابولي لم يأخذ وقتا طويلا للاندماج إذ أن المناخ العام كان مهيئا لتألقه، مباراة تلو الآخرى ليتمكن كوليبالي من التواجد بصورة أساسية في تشكيل الفريق، لقبه الفريق بـ « K2 » وهو ثاني أعلى جبل في العالم إذ يقدر ارتفاعه بـ 8800 متر، في رأي جمهور نابولي هناك تشابه كثيرا بينهما، فالجبل المعروف بـ"غودين اوستن" عال ومنعزل وصعب التسلق مسجلا نسبة وفيات أعلى ثلاث أضعاف من قمة إيفرست.. هكذا يرى جمهور نابولي قلب الدفاع خاليدو كوليبالي.
في أحد الأيام طلب أحد عمال مخزن النادي احضار قميصا له من أجل مارادونا، يقول كوليبالي عن تلك اللحظة: "بالتأكيد أنا لم أصدق ذلك، لقد قلت له :" إذا كنت تريد الحصول على قميصي فسأعطيه لك دون أن تدعي بأن مارادونا طلبه، بعد ثلاثة أيام أرسل لي مارادونا صورة مع القميص من أجل شكري، لقد أوصلني ذلك إلى السحاب، هذا الأمر يؤكد أن كل شيء ممكن في هذه الحياة"
توهج نجم فريق نابولي سريعا إلا أنه لم يتوهج بالقدر الكافي ليلفت انتباه ديديه تشامب مدرب منتخب الديوك.. أو هكذا ظن كوليبالي.
هل تشعر بالندم لتضييعك فرصة اللعب مع منتخب فرنسا؟.
يجيب كوليبالي دون تردد: «لا.. على الإطلاق، أنا فخور بحمل قميص المنتخب السنغالي، لقد انتظروني كثيرا هناك، بالإضافة إلى أني اتخذت هذا القرار بالاشتراك مع العائلة، لقد كنت متأكدا من أني اتخذت القرار المناسب، الأهم بالنسبة لي هو أني عندما أعود إلى المنزل أجد عائلتي فخورة بي، لأني مدين بجزء من مسيرتي لعائلتي».
«أذكر جيدا عندما أخبرت والداي بقراري بعد المناقشة مع زوجتي، أذكر النور الذي انبثق من عينيهما ونظرة الفخر الممزوجة بفرحة عارمة، أنا سعيد بتمثيلي للمنتخب السنغالي».