"المنشاوى".. سلامٌ عليكَ في "عِلّيينَ"
أظنُّ وليس كلُّ الظنِّ إثمًا، أنه ليسَ هناك مدحٌ، شعرًا أو نثرًا، يكافئ القارئ الشيخ "محمد صديق المنشاوى"، الذي تحلُّ ذكرى وفاته الخمسون اليوم.
أبصرَ "المنشاوى" النورَ في العام 1920، ورحل في العام 1969. وبينَ المولد والرحيل.. أبدعَ "المنشاوى" في تلاوة القرآن الكريم، ترتيلًا وتجويدًا، فلم يُشبه أحدًا، ولم يُشبهه أحدٌ.
ورغمَ الرحيل البعيد.. فإنَّ "المنشاوى" لا يزالُ خالدًا خلودًا لن ينقطعَ، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. الكثيرون ممن يعشقون صوتَ وأداءَ "المنشاوى" لا يعلمون أنه غادرنا قبلَ أكثرَ من نصف قرن بالتمام والكمال.
الخلودُ الحقيقىُّ لا يعنى البقاءَ على قيد الحياة، ولكنه دوامُ السيرة الناصعة بعدَ الرحيل. "المنشاوى" يسبحُ بسفينة القرآن الكريم إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها".. هكذا وصفَه إمامُ الدُّعاة إلى الله الشيخ "محمد متولى الشعراوى" الذي حلَّتْ ذكراهُ الحادية والعشرون أيضًا قبلَ أيام، وكلاهما ضمن خلودًا لا ينقطعُ، بسبب إخلاصهما غير المتناهى، أحدُهما في تلاوة كتاب الله، والثانى في شرح معانيه، وهذا كرمٌ ربَّانىٌّ لا يُضاهيهِ كرمٌ.
"المنشاوى" حالة إبداعية تستعصى على الوصف. يدركُ ذلكَ كلُّ مَن تعلَّقَ بصوته وواظبَ على الاستماع إليه. الأمرُ لا يقتصرُ على الخشوع، فما أكثرَ الخاشعين، ولكنه أبعدُ من ذلك بكثير. إنها الموهبة الربَّانية واللدنِّية، التي لا تحدُّها حدودٌ، ولكنها ترقى إلى مصافِّ المعجزات والأعاجيب.
نعم.. أداءُ "المنشاوى" في تسجيلاته الخارجية يتجاوزُ مرحلة البشرية إلى درجة الملائكية. قبل أن تظنَّنى -عزيزى القارئ- مُبالغًا، اذهب أولًا لتسمع تلاوة سورة "يوسف" بصوته، أو بعضًا من سورة "لقمان"، أو سورة "الفاتحة". لا تخلو تلاوةٌ "منشاوية" من فتوحٍ ربانىٍّ مُذهلٍ وإعجازٍ إلهىٍّ يأسرُ الألبابَ والعقولَ.
"خذوا القرآنَ مِمَّنْ إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى اللهَ".. و"المنشاوى" كان أحدَ هؤلاء بامتيازٍ، إنْ لم يكنْ أولَهم وأعظمَهم بلا منازع. أجادَ "المنشاوى" تجويدَ القرآن الكريم بجميع المقامات، وتميَّزَ في مقام "النهاوند"، حتى أطلقَ عليه معاصروه "الصوت الباكى"، وهذا وصفٌ أجدُه أدنى بكثير مما يجبُ أن يُوصفَ به.
"في تقديري.. إنه يُمكنُ التعليقُ على أيِّ قارئ من القرَّاء، إلاَّ "المنشاوي" الذي يُمثِّلُ حالة استثنائية، يحارُ أمامَها الذائقُ الفَهِمُ؛ فمن يتأمَّلْ مخارجَ الحروفِ عنده يصعبْ أنْ يجدَ لها وصفًا، وذلك لِمَا منحهُ اللهُ من حنجرةٍ رخيمةٍ، ونبرةٍ شجيةٍ تلينُ لها القلوبُ والجلود معًا.
ويتجلَّى ذلك عند ختامُه للتلاوة، فتراهُ يستجمعُ كلَّ إبداع التلاوة في آخر آيتين، بحيثُ يجعلكَ تعيشُ معه أشدّ لحظاتِ الخشوع على الإطلاق، وما عليكَ إلاَّ أنْ تتأملَ استرساله ما بينَ السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة الإسراء، وبينَ الهدوء وخفض الصوت كما في سورة "العَلَق"، عند قراءته: "كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى..."، نصًّا من وصف الموسيقار الراحل "محمد عبد الوهاب" له.
أما الأديبُ "محمد القوصي" فقال عنه: "إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ بابَ تلاوة القرآن من بعده، فلا يستطيعُ أحدٌ من القُرّاء أن يقتربَ من أدائه الفريد، ومن صوته الملائكي".
"المنشاوى" لم يكنْ مجردَ حالة "إبداعية استثنائية" في تاريخ تلاوة القرآن الكريم، ولكنه كانَ صاحبَ شخصية، لم تهتز أمامَ الملوك والرؤساء، ولم تنخدعْ أمام الشهرة والأضواء، وربما كانَ ذلكَ سببًا في عدم تكريمه تكريمًا رسميًا يليقُ بعطائه داخلَ بلاده، رغمَ ما حصلَ عليه من أوسمةٍ ونياشينَ من الخارج!!
عندما طلبَ الملكُ "فاروق" من "المنشاوي" أن يكونَ قارئًا في القصر الملكى، لم يُهرعْ إليه مُجيبًا مُلبيًا، ولكنه اشترط أن تُغلَق المقاهي وتتوقفَ عن تقديم المشروبات، اعتبارًا من الساعة الثامنة مساءً وقت إذاعة القرآن الكريم، والذي كانت تنقله الإذاعة من القصر الملكي، قائلًا للملِك: "إنَّ للقرآن جلاله، فهو كلامُ الله، ولا يجبُ أن ينشغلَ الناسُ عنه وقتَ تلاوته بالسؤال عن المشروبات ولهو الحديث".
فقال الملكُ: "ذلك يعني أنْ نكلِّف حارسًا على كل مقهى، وهذا أمر يتعذر علينا" فقال "المنشاوى": "كذلك.. فهذا أمرٌ يتعذرُ علينا أيضًا، وتلا قوله تعالى: وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون".
وفى زمن "عبد الناصر".. جاءه رسولٌ منه قائلًا:" سيكونُ لك الشرفُ الكبيرُ بحضورك هذا الحفلَ الذي يحضرُه الرئيس"، فأجابه المنشاوى مُمتعضًا: "ولماذا لا يكونُ هذا الشرفُ لعبد الناصر نفسِه أنْ يستمعَ إلى القرآنِ بصوت المنشاوي؟ ورفضَ تلبية الدعوة قائلًا: "لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسلَ إليَّ أسوأَ رسله"!
ورغمَ ذلك.. كان "المنشاوى" بسيطًا مُتواضعًا كريمًا ودودًا مع جيرانه ومعارفه، غيرَ مُتكلف ولا مُتكبر، هاشًّا باشًّا حفيفَ الظلِّ، سريعَ البديهة، وبدا ذلك عندما حلَّ ضيفًا على برنامج تليفزيونى في العام 1967، أي قبلَ وفاته بعامين، حيثُ سأله المذيعُ عن عمره، فأجابه: "منذ ١٥ عامًا كان عمرى ٣٢ عامًا"، الأمرُ الذي جعلهما يدخلان في وصلة من الضحك، كما كانَ مُحسنًا إلى الفقراء والمساكين ويقيم لهم الولائمَ.
ترك "المنشاوى" أكثر من 150 تسجيلًا بالإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى، كما سجَّل ختمة قرآنية مُرتلة كاملة تُذاع بصفة دائمة بإذاعة القرآن الكريم، وتلكَ التلاواتُ تُجسِّدُ كنزًا لا يفنى لمن تهفو قلوبُهم وآذانُهم إلى الاستماع إلى الذِّكر الخالد، بصوتٍ خاشعٍ مُتبتلٍ نادرِ التكرار.
رحلَ "المنشاوى" في عنفوانه، قبلَ نصفِ قرن من الزمان، ولكنَّ ذكراه سوفَ تبقى، جيلًا وراءَ جيل، هكذا أراد اللهُ له في الدنيا، ولعله في الآخرة في "عِليين"، ولا نُزكِّى على اللهِ أحدًا، وفى ذلكَ.. فليتنافسِ المتنافسونَ.