شيوخ الأزهر العظام.. قادة الثورات ( 3 )
تاريخ الأزهر الشريف، لم يقتصر على تدريس الدين الحنيف، وتنقية التراث، وتخريج أئمة العالم الإسلامي، بل تذخر صفحات هذا التاريخ العظيم بالعديد من المحطات التي صار فيها طلاب الجامع ومشايخه رموزًا ومنارات وقادة للثورات والحركات التحررية، ورفض الضيم، وإزالة المظالم، وتصدُّر جموع الشعب للخروج على تجاوزات الحكام، ونير المستعمرين.
"السيد رئيس الجمهورية:
من قلب مخلص أنبهكم لخطر المقارنة بين الوحدة المحمدية والناصرية المنشورة بمجلة الأزهر عدد المحرم، راجيًا مصادرة الصحيفة ومحاسبة الزيات على إساءته للرسول وللأزهر".. محمود عبد الوهاب فايد، المدرس بمعهد القاهرة.
ما تقدم هو نص برقية بعث بها، الشيخ الجليل "محمود عبد الوهاب فايد"، إلى رئيس الجمهورية، اعتراضا على ما كتبه كاتب شهير، في معرض نفاق الرئيس!
ولمن لا يعرف فـ"الشيخ محمود عبد الوهاب فايد"، رحمه الله، كان أسدًا من أسود الإسلام وجنديا من جنده العظام، وقد كان واحدًا من علماء الأزهر الأجلاء، كما كان من علماء الجمعية الشرعية التي تولى رئاستها في منتصف التسعينيات إلى أن تُوفي سنة 1997م. وقد اشتهر بصدعه بالحق وكونه لا يخشى في الحق لومة لائم.
كان ذلك الكاتب هو "أحمد حسن الزيات" صاحب مجلة الرسالة الشهيرة، والذي كان يتولى في تلك الحقبة أيضًا رئاسة تحرير مجلة الأزهر، وكانت السقطة أنه كتب مقالًا افتتاحيًا بمجلة الأزهر (عدد محرم 1383هـ، يونيو 1963م) بعنوان أمة التوحيد تتوحد، قال فيه بالحرف الواحد:
"إن الوحدة المحمدية – يقصد التي أقامها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - كانت كلية عامة؛ لأنها قامت على العقيدة، ولكن العقيدة مهما تدم قد تضعف أو تحول. وإن الوحدة الصلاحية – يقصد التي أقامها صلاح الدين- كانت جزئية خاصة لأنها قامت على السلطان والسلطان يعتريه الوهن فيزول. أما الوحدة الناصرية – أي التي أقامها جمال عبد الناصر- فباقية نامية لأنها تقوم على الاشتراكية في الرزق والحرية في الرأي والديمقراطية في الحكم، وهذه المقومات الثلاث ضمان دائم للوحدة ألا تستأثر فتستغل وألا تستبد فتطغى وألا تحكم فتتحكم".
فرد الشيخ "محمود فايد" بمقال في عدد مجلة الاعتصام الصادر ربيع الأول 1383هـ، الموافق لشهر أغسطس 1963م، وكان مما كتبه دفاعًا عن الوحدة المحمدية التي غمزها "الزيات" في مقاله: "يا أستاذ زيات؛ إن الوحدة المحمدية التي تزعم أنها قامت على أساس قد يضعف ثم ينهار هي الوحدة التي أشاد الله بها ونوه بذكرها في هذه الآية الكريمة:
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"
إن هذه الوحدة قامت على أساس من تعاليم الإسلام، والإسلام ليس عقيدة فحسب –كما حسبت– بل هو عقيدة وشريعة، ونظام كامل ومنهاج وافٍ للناس في كل نواحي الحياة: عقيدة توثق العلاقة بين العبد والرب، وشريعة توثق العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض، عقيدة تملأ القلب أمنا وإيمانا، وشريعة تملأ الكون سلامًا وإسلامًا ومحبة ووئاما".
إلى أن قال رحمه الله: "نعم هذه هي الوحدة المحمدية التي لم تعجبك والتي رأيتها تقوم على أساس قد يضعف أو يحول، لقد أخذت عليها أنها تقوم على العقيدة، وذاك لعمر الحق ميزة لها، ولكنك خشيت على نفسك لو قامت على هذا الأساس أن تقعد منها مقعد القصي، وأن تعيش معزولًا خارج إطارها، بعيدًا عن دائرتها، فأحببت أن تقوم على أساس من النفاق لكي تجد لك مكانًا رحبًا فسيحًا تركض فيه وترتع".
وفي أعقاب هزيمة 1967، طالب الشيخ "فايد" بمحاكمة الرئيس، الذي أصدر قرارا بعزل الشيخ "فايد"، وحاول بعض العلماء التدخل لدى الرئيس فاشترط أن يحضروا من الشيخ التماسًا بذلك.. فذهب إليه الدكتور "عبد الحليم محمود"، وكان وقتها أمين عام مجمع البحوث الإسلامية، وعرض ما طلبه "عبد الناصر" على الشيخ لكنه رفض..
وقال: أنا طالبت بمحاكمته ولم أطالب بإدانته.. وفى محاكمته تنكشف الحقائق بالإدانة أو التبرئة، ثم قال الشيخ: عندما أُخبرت بعزلي عبر الهاتف صليت لله ركعتين، ودعوته: "اللهم ارزقني وأنا من اليوم عبد خالص لك".. ولقد استجاب لي ربي وأراحني من الذهاب والإياب، ولديَّ مكتبة عامرة بالكتب أعكف على مطالعتها.. إني أقول: "قد وسّع الله عليَّ.. ياربي... لا أذل وأنا عبدك.. عبد العزيز، وأرادوا أن يضعفوني وقويتني وأنا عبدك.. عبد القوى.. وأرادوا أن يفقروني فأغنيتني لا أفتقر وأنا عبدك... عبد الغني".
ونذكر أيضًا أنه حينما كتب نقيب الصحفيين: "أنا أعارض الزكاة الجبرية" هاجمه الشيخ "فايد" بشدة وقال عنه "إنه لم يقرأ عن الزكاة كما وردت في كتب المسلمين"، فأرسل نقيب الصحفيين خطابًا إلى الشيخ يثني على ما قاله، ويؤكد تراجعه عن رأيه.