"ماي الغواصة" سقوط مستحق بعد إذلال
حلمت "تريزا ماي" منذ صغرها برئاسة وزراء بريطانيا، أرادت أن تكون الأولى لكنها باتت الثانية بعد "مارغريت تاتشر"، كما تمنت أن تترك بصمة في موقعها وتحقق إنجازات تبقى في سجلها، فإذا بها تصبح من الأقصر عمرا في المنصب الرفيع، وتنال هزائم مذلة تجبرها على الاستقالة، التي أعلنتها وسط دموع تنم عن مرارة السقوط، لكنه نهاية مستحقة، على الأقل من وجهة نظر المصريين.
لم تكن رئيسة وزراء بريطانيا المستقيلة "تريزا ماي" ضد مصر عندما تولت منصبها الرفيع فقط، بل تجلى ذلك في مثل هذه الأيام من العام 2014، حين بحث رئيس الوزراء السابق "ديفيد كاميرون"، أمر الخلاف العلني وتبادل الاتهامات بين وزيرة الداخلية، حينها، "تريزا ماي"، ووزير التعليم "مايكل غوف" بشأن مكافحة التطرف الإسلامي، والذي أدى إلى تراشق لفظي بينهما، وسط صراع في حزب المحافظين لإسقاط "كاميرون" ورغبة "تريزا" في تولي منصبه لتحقيق حلم طفولتها.
"الحرب" بين الوزيرين تعلقت بوضع إستراتيجية جديدة للحكومة لمواجهة التطرف الإسلامي، وبينما رأت وزيرة الداخلية حينها "ماي" أن "مكافحة التطرف والإرهاب تتم بالتصدي للمتطرفين العنيفين فقط"، أصر وزير التعليم "غوف" على أن المواجهة يجب أن "تستهدف المتطرفين عمومًا، سواء أيّدوا العنف أم لا، وأنه لا يمكن الاكتفاء بضرب التماسيح التي تقترب من القارب، وعلينا تجفيف المستنقع كاملا".
في الوقت نفسه، هاجمت "تريزا" علنًا الإجراءات التي اتخذها "غوف" في المدارس لمنع المتطرفين الإسلاميين من التسرب إلى جهاز التعليم، وحين دعا "كاميرون" لتشكيل لجنة تحقيق حول فلسفة حركة الإخوان المسلمين في مصر ونشاطاتها، وعلى ضوء تقريرها "يُحتمل اتخاذ قرار بمنع نشاط الإخوان المسلمين في بريطانيا"، حذرت "تريزا" من اتخاذ مثل هذا القرار، لأنها لا تريد نجاح تيار "غوف" عليها، ولا تريد حظر التنظيم الإرهابي وإغلاق مكاتب الحركة في بريطانيا.
"ماي" المنافقة، أعلنت تأييدها لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي خلال العام 2016 ومساندتها رئيس الوزراء "كاميرون"، ومع هذا نادرًا ما شوهدت خلال حملة البقاء في الاتحاد، لدرجة أن الموظفين في "داونينغ ستريت" أطلقوا عليها حينئذ "ماي الغواصة"، لأنها دأبت على الاختفاء كلما احتاج "كاميرون" دعمها علنا لحملة البقاء، وكانت النتيجة استقالة "كاميرون" بعد تصويت الشعب لصالح الخروج من الاتحاد، وتولت "تريزا ماي" رئاسة الحزب والحكومة.
ظلت "تريزا" على سياستها المناهضة لمصر منذ توليها رئاسة الحكومة البريطانية، لكنها في الوقت نفسه لم تنجح في تحقيق إنجاز يحسب لها، وألقى "بريكست" بظلاله على فترة حكمها، وأنهاها سريعا لتغادر الحكم بسقوط مذل!
حاولت "ماي" أن تشبه "مارغريت تاتشر"، لا سيما في فترة حكم تترك بصمة في تاريخ بريطانيا، لكنها ليست مثل "تاتشر"، فالأخيرة تولت رئاسة الوزراء، ودخلت "10 داونينغ ستريت" بالانتخاب، أما "تريزا" فتولت منصبها بالمنافسة مع أعضاء الحزب بعد استقالة "كاميرون"، وجاء التصويت لصالحها دون انتخابات.
هربت "ماي" من دعم "كاميرون" في استمرار بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، ويشاء القدر أن تسقط "ماي" من زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة بسبب "بريكست" أيضا، بعد رفض مجلس العموم جميع خططها واتفاقاتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولم تنفعها دموعها وهي تعلن استقالتها في البحث عن إنجاز ضائع، وهي التي اشتهرت بقدرتها على الصمود وسط ظروف شبه مستحيلة، ومع هذا باتت بين أقل رؤساء الوزراء في تاريخ بريطانيا بقاء في منصبهم.
إذ تولت رئاسة الحزب والحكومة في يوليو 2016، لتصبح ثاني امرأة تتولى المنصب، لكن من دون الفوز في انتخابات، وصمدت في التحدي الذي واجهته بالتصويت في مجلس العموم على سحب الثقة منها، غير أنها لم تكسب تعاطف المصوتين أو تقنعهم، وخلّف قرارها بإجراء انتخابات مبكرة في العام 2017 وضعًا مهينًا، فبدلًا من إحكام قبضتها وزيادة عدد نوابها، منيت بهزيمة مذلة وخرج حزب المحافظين بعدد مقاعد أقل مما كان عليه في البرلمان، ما سبب تراجعًا في شعبيتها، وفقدت المساحة التي تمكنها من المناورة والتفاوض في الكثير من القضايا، كما خسرت الكثير من الوزراء من أهم أعضاء حكومتها بسبب إصرارهم على الاستقالة، في فترة زمنية قصيرة فاق ما فقدته حكومتا "توني بلير" و"مارغريت تاتشر" في عشر سنوات.
تكررت هزائم "ماي" الكبرى بشكل غير مسبوق، لاسيما في مجلس العموم الذي صوت في يناير الماضي ضد خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي بواقع 432 صوتًا مقابل 202 فقط، ما اعتُبر أسوأ هزيمة تلقتها حكومة بريطانية منذ العام 1924. واستحوذ "بريكست" على رئاسة "تريزا" للحكومة البريطانية، لدرجة أنها تعتبر الأقل تأثيرًا على صعيد العلاقات الخارجية لبريطانيا بين كل من سبقوها من رؤساء الوزراء، فلم تتخذ أي مواقف جدية أو قرارات مؤثرة تحسب لها مقارنة بـ "مارغريت تاتشر" أو غيرها من رؤساء الحكومات.
ومثلما سعت "تريزا" لإزاحة رئيسها "ديفيد كاميرون" حتى تتولى منصبه، اختارت كثيرًا من الوزراء كل منهم يخطط لمنافستها في رئاسة حزب المحافظين، وتولي رئاسة الحكومة البريطانية بعد سقوطها المستحق، ووضح هذا من العدد الكبير المتنافس على خلافتها.