"المُلقن" بين المسرح والفساد الوظيفي
في الظل يجلس مختفيًا داخل خندقه المسمى "الكمبوشة"، على خشبة المسرح ويصوب الكلمات مباشرة لأذن الممثلين، ربما ينسى أحدهم جملة حوار أو يشرد للحظات، بدونه كان إيقاع المسرح يهتز ويختلف، هو المنقذ الدائم لكل أساطير الفن.
"الملقن"، كانت الحاجة إليه ماسة في ظل العروض المتوالية التي يقدمها المسرح أيام نهضة الفن المسرحي، وكانت الفرق تأخذ أيام قليلة كإجازة يحضرون فيها مسرحية جديدة، وبالطبع كان الممثلون لا يقدرون على حفظ أدوارهم بشكل كامل، لذلك كان "الملقن" أهم أفراد الفرقة، ولكن مع انتكاسة المسرح وقلة العروض أصبح لدى الممثلين وقت لحفظ أدوارهم بينما من يخطئ منهم في الحوار يرتجل، لتنقرض مهنة "الملقن" للأبد.
وفى مجال الفساد الإداري لا زالت مهنة "الملقن" تجد لها أهمية بالغة، فلا تكاد تجد جهة إدارية اشتهر عنها الفساد إلا وبها ذلك "الملقن" الذي لا يختلف عن ملقن المسرح كثيرًا، فالأخير يلقن كلمات للممثلين، و"ملقن" الفساد يوجه الفاسدين.
ونرى "ملقن" المسرح جالسا في الكمبوشة تحت الأرض، و"ملقن" الفساد يتستر داخل المؤسسة في اللحية وبجواره سجادة الصلاة أو ادعاء الشرف والحرص على المال العام، إلى غير ذلك من أوجه الشبه.
ولعل من شاهد إحدى بؤر الفساد يدرك جيدًا أن ضرورة دور "ملقن" الفساد في أي مؤسسة أهم بكثير من دور نظيره في المسرح، فالأخير يمكن الاستغناء عنه بإتقان الممثلين لأدوارهم، أما ملقن الفساد فهو الترس الأساسي في المنظومة، وتجده غالبًا يكون في دور الناصح الأمين أو مستشار رئيس الجهة أو مدير مكتبه وكاتم أسراره.
ويجب علينا إذا أردنا أن نحارب الفساد في أي مؤسسة أن نبحث عن تلك البؤر التي تُلقن الفاسدين أدوارهم، وتدعي الشرف أمام العاملين بالمؤسسة، وأخطر ما يميز "ملقن" الفساد أنك لا تكاد تجد له توقيع على مستند غير قانوني، كما يتميز بأنه موجود رغم تغير القيادات في المؤسسة.
أكاد أسمع أصوات القراء وكل منهم يهتف باسم مُلقن الفساد مٌدعي الشرف في المؤسسة التي يعرفها أو يتعامل معها، وليس ذلك هو المقصد، إنما الأهم من ذلك هو إيقاظ الآخرين وتنبيههم بأن ذلك الملقن ليس شريفًا كما يظنون، وأن يبادروا لإبلاغ الجهات الرقابية بكل ما يقع تحت بصرهم من شواهد الفساد، وأن يتركوا تلك الجهات تستخدم وسائلها القانونية للإيقاع بهذا المجرم لتتطهر مؤسساتنا وبلادنا من سرطان الفساد.
نقول ذلك على هامش المنتدى الأفريقي لمكافحة الفساد حيث تستضيف مصر اليوم 12 يونيو وغدا 13 يونيو 2019 بمدينة شرم الشيخ، المنتدي الأفريقي الأول لمكافحة الفساد، وذلك بمبادرة مصرية أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسي في يناير 2018 أثناء رئاسته وفد مصر في مؤتمر قمة رؤساء الدول والحكومات للاتحاد الأفريقي.
والمنتدى الذي يشارك فيه وزراء العدل والداخلية ورؤساء هيئات مكافحة الفساد وأجهزة المحاسبات والكسب غير المشروع في 51 دولة أفريقية، يعكس استعداد مصر للتعاون مع دول القارة الأفريقية في نقل الخبرات والتجارب والممارسات الناجحة في مجال مكافحة الفساد، والذي حققت مصر فيه إنجازات ملموسة شهد بها عدد من المؤسسات الدولية.
كما تنبع أهمية المنتدى في كونه يخاطب شواغل عديد من الدول الأفريقية التي تواجه تحديات في كفاحها من أجل تحقيق التنمية المستدامة لتلبية التطلعات التي تصبو إلى تحقيق الرخاء والعيش الكريم لشعوبها، ونأمل أن يضع آليات أكثر تطورًا وفاعلية للتغلب على أذرع الفساد المنتشرة في مؤسساتنا والتي نجزم أن أغلب العاملين بهم شرفاء ومحترمون، وأن غير ذلك هو استثناء، ولكن يجب التحرك السريع ضدهم لتحيا مصر.. وللحديث بقية.